فشل "المتعافي" في الزراعة.. هل يقوده إلى المالية؟؟
عندما تنفق الدولة (50%) من عائداتها على الحرب يجوع الشعب وتهاجر النخب والعقول
{ مهدت الحكومة لخطوة رفع الدعم الحكومي عن المحروقات والقمح بجملة من التصريحات والمواقف التي تعزز عزم الحكومة على المضي نحو ركوب الصعب، لدرء الآثار الناجمة عن الحرب في الجنوب الجديد ودارفور ونقص عائدات الصادر، وتبدد حلم إيرادات نفط الجنوب بعد اتفاقيات التعاون واللجوء لخيار رفع الدعم. وقال الرئيس “عمر البشير” أمام أعضاء شورى المؤتمر الوطني الأسبوع الماضي إن نصف إيرادات الميزانية (14) مليار جنيه تذهب لدعم الجازولين والبنزين والسلع الاستهلاكية، وإن هذا الدعم يذهب للأغنياء فقط ممن يمتطون السيارات ويبقى الفقراء على حالهم، واعتراف الرئيس بأن طبقة الموظفين أضحت تحت خط الفقر.. بينما قدم د. “صابر محمد الحسن” أمين الشؤون الاقتصادية بالمؤتمر الوطني ورقة دعت للمضي قدماً في تحرير السلع عن الدعم الحكومي، وتمت إجازة الورقة الاقتصادية داخل أجهزة حزب المؤتمر الوطني لتخرج من الظل إلى ضوء النهار في يوليو القادم حينما يقدم وزير المالية المراجعة نصف السنوية لأداء حكومته، ولن يجد المجلس الوطني حرجاً في (تمرير) ما يتنزل على النواب من الجهاز التنفيذي التزاماً بقرارات الحزب الحاكم، الذي يعقد جلسات مسائية لنوابه لمن يتوق إلى الحديث غير المطلوب في المنبر النيابي، ويقمع أي صوت إصلاحي مشفق بذريعة الانضباط التنظيمي، وأن حقوق النائب الحزبية الحديث في الدهاليز الصامتة والتعبير عن مواقفه أمام قيادة الحزب والظهور أمام الرأي العام والناخبين في ثبات التلميذ و(الحوار) المطيع لأستاذه وشيخه!!
وأفصحت “سامية أحمد محمد” نائب رئيس المجلس الوطني علناً وبشجاعة يحسدها عليها “علي محمود عبد الرسول”، أن البرلمان أقر العام الماضي الرفع المتدرج لدعم السلع والمحروقات، وأن الأيام القادمة ستشهد قرارات في هذا الصدد.. فهل بصم قيادات شورى المؤتمر الوطني على تقرير أمين الشؤون الاقتصادية في الحزب والقرار المرتقب لنواب البرلمان بتأييد رفع الدعم عن المحروقات لن تترتب عليه مخاطر على حياة النظام؟ وهل يتحمل الشعب السوداني حملاً مضاعفاً فوق أحماله الحالية ويرتضي بالزيادات الجديدة في كل أسعار السلع الضرورية من مقعد التلميذ في الحافلة حتى رطل اللبن والطعمية..؟؟ والشعب المسكين ضحية لسياسات خاطئة فرضت عليه حرباً غير مبررة يحرض عليها جماعة من الرأسمالية المستفيدة من الحرب.. وسوء علاقات بدولة جنوب السودان غير مبررة.. واختلال كبير في أولويات الصرف الحكومي وتجنيب الإيرادات لصالح الوزارات (الثمينة)!!
والرئيس “البشير” حينما تحدث بصراحة شديدة عن الأوضاع الاقتصادية وضع أصبعه على الجرح النازف في جسد الاقتصاد الوطني المتمثل في الدعم الحكومي لسلع ينبغي تحريرها حتى يتعافى الاقتصاد.. ولكن رفع الدعم من الوقود والقمح والسكر يقتضي أيضاً حرية في السوق، فالوقود الآن في مناطق الحرب أصبح سلاحاً بيد الحكومة.. وضاقت بالأهالي الأرض الواسعة والحكومة تحتكر حتى جالون الجازولين لإضاءة (قطية) من العشب بلمبة (أم طليس)، فحرية السوق ليست وجبة تأكل الحكومة نصفها وتحتفظ بالنصف الآخر.. حرية السوق تعني تحرير التجارة، وأن لا تمنح الحكومة امتيازات لشركات مملوكة لها لا تدفع ضريبة ولا زكاة ولا تفرض عليها إتاوات، وتمنحها العطاءات سراً وعلناً وهي شركات أغلبها خاسرة، وأصبحت مجرد ضيعة خاصة بالمحاسيب وأولاد (المصارين البيض) تخصص لهم عطاءات الولايات، ولا يطالهم القانون حينما يعجزون عن الوفاء باستحقاقات العقود التي يبرمونها، بينما المئات من الرأسمالية الوطنية الشرفاء النظيفين من الدنس والأوشاب يقبعون في دهاليز السجون بـ(الهدى) و(كوبر) وسجن (السائر) بأم درمان، بعد أن أنفقوا مالهم في مشروعات تنموية وفشلت الحكومة في الوفاء بقيمة الصكوك المالية التي منحتها لهؤلاء.. وقد مات رجل الأعمال الشهير والقيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي “عابدين أبو زلازل” بالحسرة والألم وتوقف قلبه الذي تمزق جراء الظلم الذي حاق به، حيث ظل يقبع في السجن لعام ونصف العام وجريمته الوحيدة تصديقه لإعلانات الحكومة وتشييد مدارس ومستشفيات، وحينما رفض “علي محمود” دفع مستحقات الرجل ذهب للسجن حبيساً.
الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها المواطنون بالغة السوء، ورفع الدعم عن المحروقات سينسحب على جميع السلع من كيلو البامية حتى ملوة الذرة ورطل السكر والزيت والبصل بحجة زيادة تعرفة النقل، وتتضاعف تعرفة النقل العام والنقل بين الولايات ولن تجرؤ الحكومة على زيادة رواتب العاملين في الدولة حتى لا تتضاعف أرقام التضخم بمعدلات قياسية، ويتدنى سعر الجنيه مقابل الدولار الأمريكي، وتضحي الحياة في السودان جحيماً لا يطاق، وقد سدت دروب الهجرة إلى بعض بلدان الخليج مثل المملكة العربية السعودية التي يوجد بأرضها أكثر من مليون سوداني، ويتوقع في غضون الشهور القادمة أن تعيد السلطات السعودية نحو (40) ألف من هؤلاء بعد التدابير والإجراءات التي اتخذت لتنظيم الوجود الأجنبي.. وإذا توقفت الهجرة العشوائية للعمال والقطاعات غير الماهرة فإن استنزاف العقول مستمر، وفي الأسبوع الماضي انعقدت معاينات لأطباء (صيدلانيين) مطلوبين للعمل في إحدى الدول الخليجية، حيث طلبت الدولة الخليجية (40) صيدلانياً وتقدم أكثر من (3) آلاف صيدلاني.. هرع إلى مقر المعاينات قيادات كبيرة في وزارة الصحة بحثاً عن واقع أفضل ولو كان وزير الصحة “بحر إدريس أبو قردة” من حملة التخصصات النادرة لتقدم مع المتقدمين، بعد أن أصبح منصب الوزير السوداني لا يعني أكثر من سيارة فارهة وحراس أشداء غلاظ، وسكرتيرة حسناء.. والوزير فقد بريقه القديم بتجريده من أية صلاحية، ليصبح مجرد موظف في بلاط الدولة!!
الأوضاع الاقتصادية بالغة السوء دفعت الآلاف من أساتذة الجامعات إلى الهجرة.. والفاقد التربوي والمسرحين من القوات النظامية إلى الالتحاق بحركات التمرد.. والخريجين إلى سد طرقات السوق العربي يفترشون الأرض ويسترزقون من بيع شرائح الهواتف النقالة وتحويل الرصيد، بينما البنات اللائي تخرجن في الجامعات يمتهن بيع الشاي في الطرقات وتجارة الكريمات والعطور.. والحرب التي تدور في إقليمي كردفان ودارفور لا تحصد الأرواح وحدها، بل تحصد مدخرات الأهالي وتذهب أغلب الاعتمادات المالية إلى الإنفاق الأمني والعسكري، وقد توقفت تماماً مشروعات التنمية من طرق وجسور وسكك حديدية، ولا تنفق الدولة إلا على مشروعات السدود (الشريك) وغيره، لأن الحرب لا تبقي على دولار واحد لتطوير البحث العلمي والنهوض بالتعليم العالي والإنفاق على مشروعات المياه.. وقد بلغ سوء الحال أن اشترى مواطنو الأبيض برميل المياه بعشرين جنيهاً، مما يهدد بموجات نزوح نحو العاصمة الخرطوم المحتقنة أصلاً بالمشكلات، ولا يلوح في الأفق القريب حل سياسي لإنهاء دورة العنف والحرب، واستحال التعايش السلمي بين النظامين في جوبا والخرطوم وأخذ كل نظام يتوعد الآخر.. أما البترول على قلته فقد انخفض إنتاج النفط من (380) ألف برميل في اليوم إلى نحو (105) آلاف برميل في اليوم، وعائدات النفط غالباً ما يتم إنفاقها على مشروعات مثل سد (مروي) وتعلية (الروصيرص) و(مطار عطبرة) و(مطار الخرطوم)، ولا أثر للبترول على حياة الناس ومعاشهم اليومي، ولا حتى على الصحة العامة ونظافة البيئة، وتعدّ الولايات المنتجة للنفط هي الأكثر شقاءً بالسائل الأسود، حيث حطم النفط البيئة وأشعل الصراعات القبلية والجهوية، وأدت أطماع النخب في الاستئثار بالنفط إلى انقسام الجنوب وذهابه دولة مستقلة بشأنها.
الحكومات التي سقطت في العامين الماضيين بالمنطقة العربية لم تسقطها حركات التمرد والتظاهرات ولا الثوار، بل سقطت بفساد حكامها واحتكار فئة قليلة للثروة على حساب الأغلبية من الشعب، والفساد في السودان يقف شاهداً على تمدده وطغيان إمبراطوريته.. وحتى تقارير المراجع العام السنوية التي يتداولها البرلمان ويوصي بضبط الصرف ومحاسبة الذين يأكلون أموال الشعب بالباطل، منذ قضية الأستاذ “علي النحيلة” التي كانت مؤامرة مكشوفة لم يقدم أي مسؤول للمحاكمة.. وإذا قدم (تدغمس) الأشياء ويخرج بريئاً. والفساد الحقيقي في سلوك الأجهزة الحكومية نفسها حينما تمارس الدولة تجنيب الإيرادات، وتصبح وزارة المالية لا سلطان لها على المال العام.. ولا يؤبه بأورنيك (15) المالي، في الوقت الذي تفرض فيه الزكاة على سلع ومنتجات لم يرد ذكر لها في القرآن الكريم ولا كُتب الفقه والسيرة.. وتذهب عائدات الزكاة إلى غير مستحقيها.. ويصد ديوان الزكاة الفقراء والمساكين بجنود شداد غلاظ.. والعاملون عليها (يرفلون) في ثياب النعيم.. تلك مشكلات الاقتصاد الوطني المرشح في مقبل الأيام لهزة عنيفة بعد أن أصبح رفع الدعم عن المحروقات والقمح والسكر مسألة وقت لا أكثر!!
{ المتعافي بين الزراعة والمالية
أصبح وجود الدكتور “عبد الحليم إسماعيل المتعافي” في منصب وزير الزراعة الاتحادي (غير مرغوب) فيه.. لا من جهة اتحاد المزارعين الغارق في نعيم التقاوي والأسفار والرحلات وأشياء أخرى مفيدة، ولا بسبب الخلافات التي طفت إلى السطح بين “المتعافي” وأمانة النهضة الزراعية، ولا بصراعات “المتعافي” مع الشركات الخاصة والفضائح التي (استحى) منها أبطالها إلا “المتعافي”، ولا بعد تصريحات الرجل الثاني في البرلمان “هجو قسم السيد” الذي ندب حظ بلاده وسوء تدبير قادتها وحكومتها حينما قال بنبرة حزينة: (لقد أصبحنا نستورد حتى الطماطم!)، بل لأن “المتعافي” فقد مبررات وجوده واستنفد الأغراض التي جاء من أجلها.. قتل مشروع الجزيرة وشيعه إلى مقابر المناقل.. وأفسد على السودان (نقاوة) منتجاته من أمراض تعديل الجينات الوراثية، و(أدخل) القطن المحور وراثياً لتتأثر صادرات السودان من البذرة واللحوم.. وفي الشهور الأخيرة.. أخذ “المتعافي” على عاتقه خوض معارك مع اتحادات المزارعين ومع الصحافيين والبرلمانيين.. وفي عهده شهدت الزراعة تدهوراً في الإنتاج، وتدنياً في الصادر حتى خرجت خمس ولايات دارفورية من دائرة الإنتاج وتبعتها ولايات كردفان، وزحف الفشل والخروج من دائرة الإنتاج يمتدد نحو النيل الأبيض والجزيرة، والسيد “المتعافي” كما قال “غريق كمبال” رئيس اتحاد مزارعي السودان يدير الزراعة بعقلية التاجر الذي ينتظر جني الأرباح سريعاً وتغيب عنه الخطط، ولا يحترم “المتعافي” الرأي الفني للزراعيين و(يركب رأسه) مسنوداً بدعم سياسي حصل عليه الرجل بثقة القيادة فيه وفي قدراته.. وهو رجل أعمال (شاطر جداً) وقد أصبح الآن من أكبر مصدري البرسيم من مزرعته الخاصة بغرب أم درمان، ولكن السودان فقد كل أسواقه التقليدية في سنوات “المتعافي”، ولم تفلح سياساته في زيادة الرقعة الزراعية من الأرض الصالحة المقدرة بنحو (150) مليون فدان، ولا تتعدى المساحة المزروعة الـ(40) مليون فدان.. فما الذي يجعل استثمارات الوزير الشخصية ناجحة جداً واستثمارات الدولة فاشلة جداً؟؟ ويشكو “المتعافي” من قلة التمويل وضموره في الوقت الذي يحصل فيه على كل ما يريد من وزارة المالية التي يرشحه البعض لتقلدها في التغييرات الوشيكة القادمة، على أن تسند حقيبة الزراعة إلى شاب بحماس وقدرات وإخلاص “أسامة عبد الله” الذي أينما ذهب نفع.. فهل ينجح “المتعافي” في وزارة المالية بعد أن رسب في امتحان وزارة الزراعة وفشل في إدارة ولاية الخرطوم؟ وهل المالية في سنوات القحط والجفاف المالي القادمة في حاجة إلى سياسي ذي عقلية استثمارية وتجارية؟ أم إلى اقتصادي يكتب روشتة علاج لمرض اقتصادي تطاول وفشلت معه كل المسكنات؟ إن حقيبة المالية المرشحة أن يطالها التغيير في مقبل الأيام رغم خواء خزائنها إلا أن تيارات عديدة تتصارع للظفر بها.. “المتعافي” مرشح.. و”حسن أحمد طه” متوقع.. ود.”صابر محمد الحسن” عائد.. ود.”عبد الرحمن ضرار” في القائمة، و”علي محمود” وحده ينتظر إعفاءه بعد سنوات من الشد والجذب والمعارك الصامتة مع خُطاب العروس وما أكثرهم.. فهل يخطف “المتعافي” جوهرة الوزارات ليجرب حظه من النجاح بعد أن شبع فشلاً في الزراعة؟!