غياب أبدي!!
{ ها هي الأرض تغطت بالحزن العميق وكل يوم تحاصرنا الآهات.. نفقد عزيزاً قريباً للقلب ذا مروءة.. ونحن على الدرب نمضي والأيام تتسرب والمواجع والفواجع تحاصرنا من الموت الجماعي لخراب الديار والأرض والنزوح والرعب الذي يسكن نفوس الصغار في مناطق الحروب والنزاعات.
{ في الشهر الجاري غيب الموت داعيةً إسلامياً وشيخاً أزهرياً من قدامى الإسلاميين والأطهار الأشراف.. بعيد عن الأضواء.. لم يهب لحمله حيث مرقده الأخير الذين بأفضال أمثاله ينعمون بالسلطة والثروة والجاه.. ورحل الشيخ الداعية المثقف المفكر “إدريس إبراهيم” الشهير بـ (إبرة) إمام مسجد مدينة الدلنج السابق ومؤسس معهد (النتل) الإسلامي وأحد الرجال الذين خرجوا في سبيل الله وسط أهلهم وعشيرتهم لسنوات تجاوزت الـ (50) عاماً داعياً لدين الله.. كان “إدريس إبرة” من أبكار الأزهريين.. درس هناك ومن دفعته الراحل “مختار حسن الأمين” والراحل “عمر بيلو” في النهود والبروفيسور “علي محمد شمو” أطال الله عمره وادخره كنزاً للوطن.
{ في بواكير الخمسينيات قرر تنظيم الحركة الإسلامية أن يبتعث الشباب للأطراف البعيدة لنشر الدعوة، وإرساء قواعد دولة استوت على سوقها قبل (23) عاماً.. ذهب “إدريس (إبره) إلى الدلنج، والشيخ “دفع الله” إلى تلودي، و”موسى حسين ضرار” لبورتسودان، و”سليمان مصطفى أبكر” لدار زغاوة، “وونسي محمد خير” لديار المسيرية.. وتوغل “إدريس إبرة” بفكره العميق وتجرده وزهده إلى جبال النوبة الغربية قدوة حسنة ورمزاً لا تخطئه العين.. داعية اجتماعياً عصرياً.. ملتزماً حد (التطرف) حينما كان أحد أحفاده صغيراً في مدرسة (النتل) وبلغه أنه قد سب العقيدة.. فحمل سكينه لذبحه ابتغاءً لوجه الله.. ليحول بعض أهل القرية بينه وحفيده الصغير..
{ ومن قرية (النتل) التي لا يُعلم الآن مصير سكانها وسط صخب الحرب وأزيز الموت والحصار، انتقل العم والخال الإنسان لمدينة الدلنج داعية وخطيباً في المساجد، وبعد الحرب الأخيرة استقر به المقام في مدينة أم بدة بأم درمان تحت رعاية ابنه المصرفي المميز “عبد الباقي إدريس”.. وقبل شهور معدودة عاودني العم والخال “إدريس إبرة” بالمنزل.. ذرف الدموع على وطن كان يتوق فيه للأمن والحرية والسلام، وتحدث بنبرة حزينة عن العنصرية في الصف الإسلامي وكيف تباعدت المسافات بينه وإخوته في قيادة الحركة الإسلامية.. تساءل “إدريس” (إبرة) بحسرة وألم: (هل الأمين العام للحركة الإسلامية “الزبير أحمد الحسن” يعلم عن أوضاع الإسلاميين في جبال النوبة؟! لقد أصبحنا في دولتنا التي نسجنا بيدنا ثيابها طابوراً خامساً ينظر إلينا بتعالٍ، ولا يحترمون جهدنا). وكلمات العم “إدريس إبرة” كانت هي الأخيرة ليخطفه الموت واقفاً يتلو القرآن.. ويوارى الثرى بمقابر “حمد النيل”، وقد استحال تحقيق حلمه وأمنيته أن يدفن في مسقط رأسه بجبال النوبة.
{ ومثلما كان رحيل “إدريس إبرة” فاجعاً للقلب فإن رجلاً آخر من الأنصار وقيادات حزب الأمة قد غاب عن دنيانا.. إنه الشيخ “حامد داؤود يحيى” أحد رموز قبيلة كنانة ومدينة الدبيبات التي توالت عليها الأحزان والفواجع بغروب شموسها المضيئة واحداً بعد الآخر.. مات “البشير عبد المنان” الصائم القائم الزاهد، وتبعه “حامد داؤود يحيى”.. وحينما تفقد الأوطان أوتادها.. وتتساقط أشجارها الكبيرة بالرحيل المفاجئ.. ينطفي بريق المدن والأرياف..
{ ربِّ ببركة هذا اليوم أنزل شآبيب الرحمة والغفران على قبر “إدريس إبرة” الإسلامي و”البشير عبد المنان التجاني” و”حامد داؤود الأنصاري”.