أخبار

كل ما بي.. ليس لي!!

دعوني أعرفكم بضيفي الذي استأذنه أن أعرفكم به.. وأن أفضح سره الذي أودعه كراسات الشعر بكلام (يشعل الماء ويستبقي السراب) وهو الذي يصرخ: (اتركوا للشمس بعض ضوء تنام عليه!!).. ضيفي في مقالي اليوم اسمه “أحمد الشهاوي”.. من مواليد مدينة دمياط في 12 نوفمبر 1960م.. يصغرني بعقد ونصف العقد من السنين وهو أسن مني في الكتابة والإبداع.. تخرج في كلية الآداب جامعة (سوهاج) ويعمل صحافياً بجريدة (الأهرام).. لكنه شاعر مجيد اختفى وراء الخجل الشديد من أضواء الإعلام، وأودع أسرار إبداعه في ديوان شعر اسمه (ركعتان للعشق)، وآخر اسمه (الأحاديث)، وديوان اسمه (قرآن الفتى) و(كتاب الشعر).. ورغم كل ذلك لا يعرفه كثير من عشاق الشعر.. تقول مقدمة ديوانه (الأحاديث):
(غمامة حَطّت على كفي
وألقت حملها
قالت:
كل ما بي
ليس لي
نصف لأرضيكمو
ونصف للفتى أحمد
يعيد لقلبه بعض الأمان)
(ربما كانت حديث الغيم الذي تضمن هذه الأبيات يحوي الإشارة الخفية التي تؤدي إلى أسرار الأحاديث كلها.. حيث يندلع الشعر كالبروق الصادقة من تلك المناطق التي يستحيل رصدها والتي تقع ما بين الأصل والظل، ما بين النجم والنجم، ما بين الصوت والصدى، ما بين الميلاد والموت، ما بين الرحيل والوصول، من تلك اللا أمكنة واللا أزمنة.. من توقان جياش للتواصل للسعي للانطلاق).
(يستمد أحمد الشهاوي ينابيع شعره، ومصادر قوله، يغزل المعاني من الضوء، ويجعل من الأنفاس جنوداً مجندة للحرف.. من بحار الأنوار، من الكواكب، الدرّية، من نفحات الأنس، من كل دفاتر العشق القديم والجديد..
هكذا يتفجر صوت شعري قوي، متميز أصيل، مجدد يكشف لنا عوالم كنا نجهلها ومساحات لم تقع عليها عين.
هكذا يجعلنا أحمد الشهاوي نتحد بالنار والنور معاً في بحثه الشعري عن الحقيقة والأمان).
هذا ما تفصح به المقدمة المجهولة الكاتب، التي تقدم هذا الشعر المتوهج بالكلام الشديد الإفصاح.. وهذا التصوف في بناء القصيدة وكأن كل حرف في كل بيت صلاة وتلاوة لوجد تلفّح باليقين والسكينة.
هذا الشاعر المختفي في خيمة مضروبة على أرض ليس بها وليس فوقها تجري ماء كالتي نعرف، وإنما ماء بلون ورائحة وطعم التصاق الرمش بجفن قرأ في عيون لها كون خاص أكواناً وألواناً لا يعرفها حتى قوس قزح..
يقول في حديث العشق:
(من عَشِق
فعفّ
فشفّ
فذاب
فآب إلى زمرتنا
ثاب
فأسكنه الله سماءه
وسَمَا به)
انظر لهذه المفردات المسبحات بالعفة والشفافية والذوبان روحاً وفناءً في تلك الذات.. وهو وكأنه الحلاج يناجي ما لا نرى.. وهو يرى عياناً ذلك السر الذي بدا واضح المعلم والوصف..
نراه يقول في حديث النون:
حان حينُك
يا فتى
وا حسرتا
ضاعت خطوط الأرض من تحت اليد
تلك التي خطت خطوطاً
ضوؤها (ضاد) الضياء
وسمتها (سين) السنا
وشمسها (شين) الشتا
وحالها (حاء) الحنا
و(النون) تعرج للسما
وتقول
(كُن يا فتى فتكون..)
هذا الشعر البكر المفردات.. الخفيف الخطى على السمع.. العميق البحر.. الصقيل العبارة.. والأنيق القافية.. به يتنفس العاشقون ويسهر المساء حتى يلاقي الخيط الأول للضوء.. أما تراه يقول في حديث الإسراء:
(نويتُ، سريتُ، فرُحت، فرِحت
فلُذتُ، فطفتُ، فشُفت، علوتُ
سَموتُ، رأيتُ، وصلتُ
ووصلي كان وصول الفتى
للفنا
واختصار الدُنى في عيون القلوب..)
أما ترى هذا السرى الذي كان ضحى فسرق من الليل الإدلاج والتوغل في مسافات الليل حتى أضحى ضحى..؟!
هو يسبح في ملكوته الخاص مناجياً ذاته ومؤتنس بوحدة هي قافلة فوق ظهور نوقها أقوام يمّموا وجهتهم شطر الخلود.. فيقول في (حديث الخلود):
(مسّك الناسُ
أم مسّك الماسُ
أم رشّك الآسُ
أم خشّك الكاسُ
كلّ العيون ارتقتك
وكلّ القلوب ارتأتك
وكلّ النساء بكتك
تخلّد وجهك
يا خالداً، لا يموت..)
هذا الشاعر حين كتب ديوان (الأحاديث) كان في الثلاثين من العمر.. ولغته تقول إنه قطع من مفازة العمر سنين “لبيد” في الحكمة والفرح بإدراكه الإسلام.. والشاعر لم يدرك مرحلة “الشبلي” في كهف الأسرار لكنه في (حديث النور) يقول:
(شاهدت النور
ففِضت
وفُضت أقفالك
فاضت كل فيوضك
في الأرض
وخُضت بحار العشق
لوحدك
مِتّ فعشت
فمادت كلّ جبالي لك
علوت فشُفت
فقلت
سبحاني ما أعظم شاني
مثلي يدخُل في مثلي
يقبس نوراً من نوري
ويفُك الحرف المأسور
سبحاني ما أعظم شاني..)
أما ترى كيف تغني هذه القافية الرشيقة (سامبا) الشعر المشتاق لنجاعة المعنى وإرواء النفس بماء العشق الفصيح النجوى.. هو يكشف عورة الشعر الذي لا يجيد وصف الحال ولا يقرأ التبريح والموجدة الحراقة النبض، ولهذا يتقمصه حال يترجم بلغة الحال!!
(حال يترجمني إلى لغة تقول
ولا تقول)
تقول بأنني ولدُ رسولُ
تقول بأنني وطنُ جميلُ
تقول بأنّ شمسَ الله ماء
وأنّ الماءَ بعض من رحيل
وأنّ العمرَ يمضي في اتجاه
وأنّ فتاه يدخل في أفول
(حالي يقول رميتني
والرميُ كان السهمُ يسرحُ
في الدخولْ
فتِه دلالاً يا فتى
تِه
واقرأ إذا نادى الرسول
العشقُ جنتنا
و”رحيلُ” وجهتنا
والحرفُ فرحتنا
والقلبُ رايتنا
والنايُ زفتنا
والحبُّ سكتنا
وكثيرُنا دوماً قليل)
أخي القارئ ضاقت المساحة المتاحة لكتابة المقال، ولو تجاوزتها سطراً لاحترقت، وعندي لك حديث طويل في شأن هذا الشاعر..
دعني اقتطف من (حديث الوصل) المقطع الأخير:
يبدأ تاريخ الورد من الجَزر
إلى المدّ
من البُعد
إلى الودّ
ويسأل يا…
هل صان القلب وصالك
يا وطن الروح ومقربة البعداء
سمّيني مدخل عشق
مخرج عشق
باب سماء)

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية