أخبار

كلمة الدكتور الصادق الهادي المهدي في احتفال الجيش بذكرى كرري اليوم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله الوالي الكريم والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله وصحبه مع التسليم

أصحاب السعادة والسيادة والرتب والألقاب مع حفظ المقامات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يطيب لي ان شارك القوات المسلحة السودانية احتفالها بالذكرى ال١٢٤ لمعركة كرري والتي من محاسن الصدف أن تكون الجمعه الماضية 2 سبتمبر 2022م تتوافق مع ذكرى معركة ” كررى ” الأصل التى وقعت فى صباح يوم الجمعة 2 سبتمبر 1898م.

ولا شك أن الجيش الغازي خاض معركة كرري وتفوق بمدافعه وقوة نيرانه على قوات الدولة المهدية الوطنية التي خاضت المعركة بكبرياء السودان وعزة النفس السودانية التي عرفنا بها وجبلنا عليها
وفي سبيل تحقيق نصر حاسم ارتكب الغزاة مذابح تماثل الإبادة الجماعية وارتكبوا جرائم حرب فضلًا عن جرائم ضد الإنسانية ، فقد أجهز جيش كتشنر على الأسرى وقتل الجرحى ومنع الماء عنهم فصعدت أرواح الاف من ابناء هذا الشعب الأبي ..

فيما سبق ظلت ذكرى ” معركة كررى ” ضد الجيش الإنجليزي الغازي تمر مرور (غير)الكرام ..مرورًا صامتًا بلا احتفال وبلا اهتمام وبلا وفاء للشهداء ولو بلفتة من الإعلام الوطني.. !!
في المقابل احتفى الأعداء بشموخ رجال كرري وبثباتهم الأسطوري وببسالتهم وقد وصف المؤرخ الامريكي جي أيه روجرز السودانيين بانهم( اعظم رجال العالم من ذوي البشرة السمراء) وقد نقل عن أشهر المراسلين البريطانيين وصفه المعركة فقال(لقد كانت اشرس معركة في أشرس يوم… تقدمت الراية الزرقاء راية الخليفه عبدالله في مقدمة الجيش المهدوي برجالها الاشداء المخلصين حتى الموت وكان هناك خياران امامهم النصر أو الجنة
It was victory or paradise
وأضاف ( لا اعتقد ان هناك جيوشًا بيضاء قد واجهت الموت من قبل كما واجهه هؤلاء
لكن هؤلاء الرجال أصحاب البشرة السمراء تقدموا نحو حتفهم بثبات. فقصفتهم مدفعيتنا قصفًا شديدًا ولكنك رغم ذلك ترى صفوفهم المتراصة تتقدم نحونا وعندما كانوا في مرمى مدافع المكسيم كلما تساقطت جثث قتلاهم كانوا يجمعون صفوفهم ويتقدمون للامام بشجاعة فائقة لقد كان هذا اليوم اخر أيام المهدية ولكنه كان بحق أعظمها على الإطلاق.. لم يتراجع العدو قط … لم تكن كرري معركة بل كانت حادثة إعدام ابطال !
إن جاز لي أن أقول أن قواتنا قد بلغت الكمال .. فلابد لي ان أعترف بأن المهدويين بروعتهم.. قد فاقوا حد الكمال ! لقد كان جيشهم في كرري من أعظم وأشجع الجيوش التي حاربناها طوال مواجهاتنا الطويلة في حروب المستعمرات .. وكان دفاعهم مستميتاً عن امبراطورية شاسعة و مترامية الأطراف افلحوا في الحفاظ عليها لوقت طويل وبكفاءة عالية . لقد تصدى لنا حملة البنادق منهم ببنادقهم المهترئة وذخيرتهم المحلية التصنيع وإستماتوا هم وفرسانهم حول الراية الخضراء والراية الزرقاء ببسالة عجيبة .. أما حملة الرماح فقد تحدوا الموت في كل لحظة بلا يأس أو خنوع حتى أفناهم الموت عن آخرهم ولم يتبق من ورائهم إلا ثلاثة جياد ! حتى من جرُح منهم بقي في مكانه يصلي للرب أن يقتل احد منا قبل أن يموت ! ” .. يواصل ستيفنس تأكيد ما سبق حين يذكر واقعة نالت إعجابه كثيراً . وكمثال لهذه الشجاعة الأسطورية يقول المراسل الحربي فقد شاهدت بنفسي طفلاً من أطفالهم كان في العاشرة من عمره تقريبا .. رأيته يقف باكياً عند جثة أبيه القتيل في ميدان المعركة .. فلما اقتربنا منه تناول بندقية ملقاة على الارض وأطلق النار نحونا .. لقد عمل الطفل الشجاع كل ما كان بوسعه عمله ! ” ..
أما مراسل صحيفة Le Temps الفرنسية .. فقد أورد الامريكي جي اي روجرز شهادته من خلال كلمات قصار .. موجزات .. معبرات :
” إن المرء منا لا يملك إلا ان يحيّ بسالة هؤلاء الجنود المهدويين .. لأنهم بلاشك لا يقلون عن نظرائهم الذين كانوا تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي بسالةً واقداماً ولاشك أن ريتشارد قلب الأسد لم يكن أشجع رجاله يفوق مستوى هؤلاء الرجال وخصوصاً عند الالتحام يداً بيد .
حفظت الواح التأريخ للأمير يعقوب جراب الرأي شقيق الخليفه عبدالله قوله : ( الطير في سماه يقول قوقو يا ماكل حلوها مرها ضوفوا دمس ليلنا وحلق طيرنا المابدور الموت بشوف غيرنا)
قال عباراته تلك عندما علم باستشهاد محمد ود المهدي
وابراهيم الخليل والتفت الى زملائه المجاهدين واخرج سيف مِن غمده وصاح صيحةردد صداها جبل كرري: ( العيال الصغار محمد ود المهدي وإبراهيم الخليل راحوا للمقام الدائم واحنا ماسكين لجام خيلنا وأضاف تبلدية وقعت في الكفار) واندفع ومعه خمسة عشر الف مجاهد في وجه مدافع المكسيم.

ان هذه المعركة ببطولاتها وبسالتها يجب ان بتعرف عليها الجيل الجديد وبتعرف على سلفه الصالح الذي قدم فى نهار يوم واحد اكثر من ١٥ الف شهيد و30 الف جريح ما جعل يوم كرري كأكبر يوم ترتكب فيه مذبحة بشرية فى التاريخ وفي اقل من ست ساعات .. كما أن الجيش الغازي وبأوامر مباشرة من قائده كتشنر ، اجهز على الآلاف من الجرحى والأسرى مما انعكس سلبًا على معنويات الغزاة وجعل انتصار الجيش الانجليزي أقرب للهزيمة السياسية والنفسية والاخلاقية. وقد جردت معركة كرري الغزاة من أي ورقة توت او ادعاء الحضارة مثلما جردتهم من اي فضيلة إنسانية. فما أرتكبه الجيش الإنجليزي فضح ادعاءات كاذبة بانه جاء يسعى لنشر الحضارة اذ كيف لإنسان بدائي ناهيكم عن إنسان متحضر كيف يمنع الاسر السودانية من دفن شهداءها كما كيف لانساني طبيعي ان يأمر جيشه باستباحة الدماء والمدينه ؟ هذا السلوك جعل الجيش الإنجليزي مجرد مجموعة نهب مسلح جاءت من وراء البحار لتسرق المقتنيات الشخصية وحلي النساء والمصوغات الذهبية والهجوم على بيوت الاسر المغلوب عليها واقتحامها ..والانكى ان كتشنر أسند لشقيق غردون قيادة فرقة مهمتها قصف قبة الإمام المهدي فأطلق عليها وابل من المدافع المحمولة في السّفن الحربية كتعبير عن روح الثأر لغردون .
ان العنف الفالت الذي أظهره الغزاة الانجليز واجهته في المقابل إرادة سودانية لا تلين و لا تنكسر وظلت تقاوم حتى تمت استعادة الاستقلال من جديد في يناير 1956م !!

لهذا في أناشيد عيد الاستقلال ادرج عدد من الشعراء كرري في عيد الاستقلال المجيد ومن أولئك الشاعر عبد الواحد عبد الله فكتب كلمات صارت جزء من وجداننا ( اليوم نرفع راية استقلالنا) و : (كرري تحدّث … عن رجال كالأسود الضارية… خاضوا اللهيب.. .وشتتوا كتل الغزاة الباغية… والنهر يطفح … بالضحايا … بالدماء القانية.. ما لان فرسان لنا…. بل فرّ جمع الطاغية..!!
ومن الأناشيد التى اختفت من التداول نشيد: إشهدوا شهداء كرري… يا أساس الوطنية.. يا مَن كافحتم وناضلتم… أحفادكم نالوا الحرية..!!
ومن جهة خلدت شاعرة أنصارية كرري قائلة :
أصحاب الامام للقتال مرقوا . عاقدين العزم سوا ما اتفرقو شدوا من عشى لجموا وساقوا ..
ومن بعد الصبح معاهم إتلاقو الأسلم نجا والخافهم ساقوا ..
الفرس قتل والجرى ماسبق جابو)

إن الإحتفال بكرري تأكيد على العزم الذي اظهره رجال كرري وبان كرري كانت خسارة جولة وليست خسارة الحرب و أن الإحتفاء بها هزيمة للهزيمة نفسها لابد ان تهزم الهزيمه بعدم الاستسلام لخسارة وارده بل بنبغي ان نجعل منها مصدر للعزيمة والشجاعة والثبات وينبغي ان ننقل هذه المعاني للاحفاد لمواصلة الصمود والتصدي وحراسة الأهداف الوطنية.

ان هزيمة الهزيمة في هذا المعنى هي تجاوز لما اراد الإنجليز ان يشيعوه فقد أرادوا ان تصبح معركة كرري بداية النهاية لزوال أول دولة سودانية وطنية مستقلة وغياب اول دولة تنشأ بعد معارك هُزم فيها الجيش الشعبي السوداني جيش امبراطوري وكسر مربعه ومرغ أنفه في التراب.
هذه الخليفه توجب الإحتفاء بكرري وبرجالها وبذكرى شهدائها البواسل الذين منحونا الفخر اليوم الاعتزاز بوقفتهم وصمودهم الأسطوري.

إن احتفاء الجيش السوداني بذكرى كرري يستحق عليها الثناء والتنويه وكنت وما زلت أقول حرى بنا أن نجعل كرري يومًا وطنيا للسودان وخصوصا لجيشه وشهدائه وتقتضي الضرورة والوفاء لآهل العطاء أن تحتفي بمن قدم روحه من أجلنا وهذه الذكرى ينبغي ان تفرد لها برامج البث التلفزيوني والإذاعي يسمح بترديد الاناشيد الوطنية والمسيرات الحماسية والندوات التخليدية لكي تصل للأجيال السودانية المختلفه.
التاريخ وجولاته يمثل ذاكرة الأمة جميعًا ولابد ان لا يكون الاحتفاء بكرري من جماعة محددة وإنما من قيادة الدولة وينبغي تبعا لذلك إعادة قراءة التاريخ الوطني وتشجيع البحث العلمي بما يبرز الحقيقة التاريخية ، لأنه ببساطة لا يمكن لأمة بلا ذاكره أن تتقدم شبرًا أو تتوحد أعراقها ومكوناتها .
إننا في حاجة وجودية لبناء ذاكرة الأمة السودانية علي منهجية تصحح ما كرسته كتب الدعاية الحربية الانجليزية من امثال سلاطين وونجت ونعوم شقير ومثلهم معهم. لقد حاول هؤلاء تشويه التاريخ وطمس معالم الوقائع ولكن الحقيقة لا تضيع لانها مثل عين الشمس لا تغطى بالغربال ولقد برزت مدرسة تاريخية جديدة اضاءت ما تم طمسه من وقائع التاريخ أو تم تجاهله مذكر عصمت زلفو واللواء ابو قرون ولهذا فإن معركة كرري ستظل حية فهي التي ألهمت شهداء أم دبيكرات وألهمت ود حبوبة والفكي السحيمي وعبد الله ود جاد الله مثلما ألهمت ثوار 1924م إن كرري شامة في جبين الوطن وقلادة في عنق هذا الشعب وستظل.
الله اكبر ولله الحمد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية