"النفاج" باب الزمن الجميل الذي اغلقته الايام
المتأمل لمفردات أغنية (باب السنط) التي جسدتها فرقة (عقد الجلاد) يشعر بعمق المعاني التي صورها شعراً شاعر الشعب (محجوب شريف) ويرى كيف أن (ود باب السنط والدكة والنفاج والحوش الوسيع للساكنين أفواج واللمة التي ربت جنى المحتاج والنار الدغش والريكة جنب الصاج)، تحرك الدواخل نحو قيم ونعم افتقدها الناس، حيث أضحت قيم التواصل والتداخل والألفة والعِشرة بين الأهل والجيران وغيرها من قيم الترابط الأصيلة، محض ذكريات لماضٍ آفل حل محله الجفاء وحب الذات.
“النفاج” باب التواصل
وعرف السودانيون بالتكاتف والتعاضد إلى وقت قريب علاوة على اتصافهم بجمال وكمال الأخلاق، وعمق العلاقات الإنسانية، بينما بقي البعض منهم يجاهد في المحافظة على التواصل في الأفراح والأتراح مع الأهل والجيران والأصدقاء والزملاء، كانوا في السابق يقضون أياماً وليالٍ في(بيوت الأعراس) وفي بيوت العزاء، وأخيراً فُقدت الكثير من الأشياء الجميلة والفريدة. يرى مراقبون أن عوامل عديدة أثرت لتفرز هذا الواقع، أبرزها الظروف الاقتصادية وانتشار التكنولوجيا ووسائط الاتصال التي عزلت الأسر عن بعضها والجيران عن جيرانهم ليمتد التأثير ويشمل الأهل والمعارف، بل حتى أفراد الأسرة الواحدة، ففقدت لذة التعارف والمسامرة و”اللمة” وكل ما يقرب الناس لقضاء أوقات سعيدة يسودها الحب والحنان والمحنة والأمان. في السابق كان المجتمع في أوج تماسكه الاجتماعي في القرى والأرياف وحتى المدن التي شهدت تعايشاً بين سكانها بسحناتهم وثقافاتهم كافة، حتى أنهم لشدة ارتباطهم كانوا يفتحون أبواب منازلهم على بعضهم البعض دونما حواجز أو استئذان، و(النفاج) الذي ربط بين بيوت الجيران عبر فتحته الممتدة من دار لأخرى، يتزاور عبرها أهل الحي الواحد ويقدمون للتسامر والتواصل والأنس دونما تكلف أو تذمر، وفي أخرى يتم عبر باب خشبي صغير يسمح بمرور شخص واحد فقط.
شغف التملك
وفي السياق تلفت الجدة “الزينة النور” إلى أنها ولأكثر من عشرة أعوام لم ترِ نفاجاً بين بيتين، ناهيك عن القديم، الذي يكاد يربط بين جميع بيوت الحي، وزادت أن ببيتها بمدينة أم درمان العريقة، كان (النفاج) يوصلها إلى جميع جيرانها وأقربائها، موضحة أن الأهل الذين يسكنون في حوش واحد كان (النفاج) مدخلاً حميماً لهم كذلك الحال في قريتها ومسقط رأسها، ولكنها تحسرت على سنوات مرت حقاً ولم ترِ فيها نفاجاً قط، وعزت ذلك لانشغال الناس بالحياة الدنيا أكثر من علاقاتهم الاجتماعية والأسرية، وأبانت أن شغف التملك لازم الجميع كل يريد ورثته ولو كانت أمتاراً ليغلقها عليه ولا مساحة لـ(نفاج) أو حتى (طاقة). وقفنا مع إحدى (حبوبات) الزمن الجميل عند (طاقة) من الزمن الجميل، وبدت أكثر سعادة حينما أخذت تشرح كيف أن (الطاقة) مثلها ومثل الشباك الصغير الذي يطل من بين بيوت الجيران، وعبرها كانوا يتفقدون بعضهم بحنان واهتمام يومي، تضيف كنا نسمع عبارات (كيف أصبحتوا وكيف قيلتوا وكيف أمسيتوا)، مشيرة إلى أن أحوال الجيران كلها تكون معلومة للبعض عبر الطاقة، ومن خلالها أيضاً تحلو (الونسة) بين النسوة، وعبرها يختلس العشاق نظرة خاطفة للمحبوبة من بنات الأهل والجيران دون أن يشعر به أحد أو يراه، ثم أخذت تردد مقطعاً من أغنية تراثية (العجب حبيبي) ( يمه زازه يمه زازه اخدت نظرة أنا من قصاد الطاقة)، وتحسرت على ما آل إليه الوضع الآن، حيث قللت البيوت الحالية من التواصل والكرم لأنها مغلقة ومكيفة ولا يسمح بنافذة للتواصل مع الجار.
غياب القيم الجميلة
أما “ستنا فضل” امرأة (خمسينية) تحسرت على ما ذهب من عمق العلاقات والتعامل الراقي بين الجيران والأهل، وقالت إنه من المعتاد أن تنادي الجارة جارتها عبر (الطاقة) و(النفاج) من حوش بيتها لتدعوها لعواسة (الكسرة)، قائلة إن النار(الدغش) أي التي توقد باكراً بعد إعداد الشاي تعاس فيها الكسرة بوجود عدد من النسوة يجتمعن كل يوم في بيت واحدة منهن.
ويقول “الحاج الطيب أحمد” إن غياب العديد من القيم السمحة في المجتع واندثارها أثر في حياة هذا الجيل، مشيراً إلى أنه ولوقت ليس ببعيد (أقل من عقدين من الزمان) كان الجار مثل رب البيت يُقدر ويُحترم ويُربي أبناء جيرانه وأهله كما أبنائه تماماً، ولا غضاضة في الإنفاق عليهم ودعوتهم لتناول وجبات الطعام دون محاذير و(عُقد) كما هو سائد اليوم، وذكر “الحاج” سابقاً عندما تقام المناسبات تفتح كل البيوت دواوينها لا تشعر بأن المناسبة تخص من منهم، واستشهد بما ورد في أغاني البنات (الحوش الكبير شايلنا نقيل نمسي قبلنا)، لافتاً إلى روح الأسرة الواحدة التي أصبحت مفقودة الآن، فأصبح بالإمكان أن يقيم الجار مناسبة ولا يدعو جاره أو يفتقده، وفي حال حدث له مكروه لا تجد من يعلم به، أو حتى القيام بالواجب تجاهه عند العلم به، ويرجع كل ذلك إلى ضعف العلاقات الاجتماعية الآن بين الجيران.