(المجهر) تحاور رئيس حزب الأمة الإمام "الصادق المهدي" حول التاريخ والراهن والمستقبل (1)
الإمام “الصادق المهدي”، رئيس حزب الأمة القومي، اسم عريض لسياسي لا يحتاج إلى تعريف.. عاصر معظم الحكومات التي أتت بعد الاستقلال، وكان سهمه فيها واضحاً، سواء أكان ممسكاً بتقاليد الحكم عبر رئاسة الوزارة أم متخندقاً في صفوف المعارضة إبان الحكومات العسكرية التي كان جزءاً منها خلال عهد الرئيس “جعفر نميري”.
ولا تبدو قيمة إمام الأنصار السياسية وحدها فقط هي ما تجعل هذا الرجل صاحب كلمة مؤثرة ويترقب كثير من الناس آراءه فيها فحسب، ولكن حفيد الإمام “المهدي” لا يكف عن التفكير والتدبير وإطلاق الحلول في كثير من القضايا سواء أكانت على المستوى المحلي أم الإقليمي أو حتى الدولي، وربما لهذا السبب وضعت اسمه إحدى الهيئات العالمية في الهند ضمن مائة من أهم المسلمين في إدارة السلطة في القرن العشرين، وهذا نفسه من الأسباب التي جعلت مركز جائزة (قوسي) الشبيهة بجائزة (نوبل) تختاره لجائزة السلام لعام 2013م حسب ما أبلغنا ضمن سياق الحوار.
والمحاور للإمام “الصادق المهدي” ربما لا يجد كثير عناء في إدارة الدفة.. كونه رجلاً مرتب الأفكار ويعرف تماماً ما يقوله.. ورغم الاتهامات التي بدا أنه استغرب حضورها في أذهان البعض إلا أنه رد عليها بعقل مفتوح وبطريقته المعهودة في السرد.. وكان الحوار الذي أظن العنوان الأبرز له (حوار للتاريخ والحاضر والمستقبل).. فإلى مضابط ما خرجنا به..
{ دعوتك الأخيرة لأنصار حزب الأمة بالانخراط في الجيش ربما عدّها البعض تأتي في سياق التقارب مع الحكومة أو هي دعوة مضمرة لعدم ممانعتكم في إحداث تفاهمات واتفاقات معها؟
– منذ مدة نحن نتحدث عن قومية القوات المسلحة ونطالب بهذه القومية ونقول إنها أمر ضروري، وأنا قلت الآتي: أولاً المبدأ الذي نطالب به هو قومية القوات المسلحة لأن دورها هو دور قومي، وهناك دلائل على أن القوات المسلحة ما زالت تحتفظ بهذه الصفة القومية، وقلت نحن نريد أن ندعم هذه الفكرة القومية، لذلك يجب أن تفتح أبواب التجنيد للكافة وأن يدخل الأنصار بحماسة لأن الدفاع عن الوطن واجب وطني وإنساني.. إذن الكلام كله في إطار قومية القوات المسلحة وليس في إطار أي تقارب مع المؤتمر الوطني، وبالعكس نحن نرى أن المؤتمر الوطني هو المسؤول عن سياسيات التمكين، فالكلام ليس في إطار التقارب مع المؤتمر الوطني ولكن التقارب مع المصلحة الوطنية، وكنا على طول المدى نقول (نحن مع الوطن وضد الوطني) والوطني بمعنى المؤتمر الوطني، لذلك أي استهداف نشعر أنه سيلحق بالوطن نقف فيه موقفاً من باب نداء الوطن، ولكن سياسات المؤتمر الوطني نحن أبعد ما يمكن أن نكون عن الانخراط فيها.
{ دعوتك جاءت في أعقاب تبرعك بمتعلقاتك الشخصية لمنكوبي المناطق المتأثرين بالعمليات العسكرية في جنوب كردفان؟
– ده برضو كلام مدهش أن يستغربوه.. و(أبو كرشولا) كانت في الغالب في ظروف الحرية تصوت لحزب الأمة وبها عناصر كثيرة من الأنصار وحتى من غير الأنصار.. إنسانياً أي ناس يتعرضون لنكبة الواجب الإنساني – بغض النظر عن أي موقف آخر – أن يقف الناس بقوة في تضميد جراحهم والعزاء في موتاهم وإسعاف المواطنين بكل طريقة ممكنة، وهذا أيضاً لا صلة له بالمؤتمر الوطني، وهذه مسألة متعلقة بالشعور الإنساني والوطني، ومن يتهمنا بغير ذلك فاسد المزاج ليس له علاج.
{ ما سبق أعاد إلى أذهان بعض الناس سيناريو مصالحتك الشهيرة مع نظام الرئيس “النميري” رغم دعواتك المتتالية للديمقراطية والدولة المدنية وإعلانك الدائم معاداتك لتلك الأنظمة، وهو موقف يرى فيه الناس تبدلاً غير موفق في مواقفك السياسية ما يشق صف المعارضة؟
– من يقول هذا الكلام جائر وظالم جداً.. أولاً نحن أكثر الناس عملاً من أجل الديمقراطية. بالنسبة لنظام الفريق “إبراهيم عبود” نحن – مع أن بعض عناصر حزب الأمة كانت سبباً في ذلك الانقلاب – وآخرون على رأسهم والدي كنا منذ البداية نرى أن انقلاب (17 نوفمبر) مؤامرة في المقام الأول ضد حزب الأمة وضد مؤسساته، وهذا كلام واضح وبيّن، وحتى مذكرات الفريق “إبراهيم عبود” أظهرت ذلك. نحن موقفنا المبدئي ضد الدكتاتورية العسكرية لـ(17 نوفمبر) وظللنا نكافح ضدها كفاحاً كبيراً، وأنا من كتبت ميثاق أكتوبر في بيت “المهدي” وأمنت عليه القوى السياسية الأخرى، ودور حزب الأمة والأنصار في أكتوبر معروف، وهذا ما يتعلق بالحكم العسكري الثاني.. وفي عهد “نميري” كان كياننا الأكثر مقاومة له، ونتيجة لهذا هو أدرك الحاجة إلى المصالحة وعرض المصالحة الوطنية علينا بواسطة المرحوم “فتح الرحمن البشير”، وكان يقول في العرض إنه مستعد لقبول التحول الديمقراطي إذا كنا نحن قد وافقنا على ذلك، وأنا قلت إذا هو وافق على التحول الديمقراطي فأنا مستعد أن أقابله في أي مكان في العالم، وهو اختار بورتسودان وذهبت لمقابلته هناك، واتفقنا على مشروع ونشرته في المصالحة التي تبين الشروط التي بموجبها اتفقنا من الألف إلى الياء، وطبعاً بموجب هذه الشروط أُخرج المواطنون كلهم من السجون وانفرجت في السودان حريات نسبية وفي إطارها اتفقنا مع النظام، وفي آخر المطاف النظام قال لي الرئيس السابق “جعفر نميري”: أنا مستعد أن أجعلك خليفتي ونائبي إذا انضممت إلينا وعملنا مع بعض، وقلت له يا أخي المشكلة مش من يحكم السودان ولكن المشكلة (كيف يحكم السودان)، إذا اتفقنا على حكم السودان بالأساس الديمقراطي أنا مستعد أعمل في أي مكان لكن في ظل نظام ديمقراطي، وقال لي أنا موافق وتعال معنا وانضم إلينا، وأنا سوف أفعل ما تريده، وهذا جعلني انضم إليهم لمدة شهر واحد، لأنه في أثناء هذا الشهر حدثت اتفاقية (كامب ديفيد)، ونحن قلنا موقفنا منها مخالفاً لموقف الحكومة المصرية، لكنه عندما ذهب إلى نيويورك وقرأ خطابه كرئيس، في هذا الخطاب عدل الفقرة المتعلقة بالموقف من (كامب ديفيد) وأيدها، سواء أكان نتيجة ضغط من الأمريكان أو “السادات”، المهم هو فعل ذلك، مباشرة بعد ذلك قدمت خطاب استقالة من هذه العلاقة، لأنني اعتبرت أن ما قاله لي كان كذباً، وكانت الاستقالة مسببة بأنك وعدت بأن تكون قراراتنا دائماً مشتركة واتخذت قراراً فردياً، لذلك استقلت بعد شهر واحد من هذا الانضمام، ثم ذهبنا في تنظيم العمل المعارض حتى جاءت الانتفاضة، ومرة أخرى أنا الذي كتبت ميثاق الانتفاضة، وهذا يشهد عليه كثير من الناس ويشهد عليه الأستاذ “أمين مكي مدني”، وكان الميثاق مكتوباً بخط يدي، وهو بعد أن انتصرت الانتفاضة أرسل لي هذا النص كوثيقة تاريخية، وكان عندي في المكتب في مجلس الوزراء، ولكن عندما أطيح بالنظام الديمقراطي لا أدري أين ذهب، ولكن كان معروفاً أنني أنا الذي كتب ميثاق انتفاضة (رجب / أبريل)، وده كلو يعني أننا طول زمننا نعبر عن أشواق الشعب السوداني للديمقراطية.. صحيح نحن نعبر عنها بصورة فيها عقل وحكمة، يعني مثلاً عندما تقفل كل الدروب مثلما فعل “نميري” في انتفاضة شعبان في عام 1973م خلاني آخد خط المقاومة المسلحة حتى عرض “النميري” المصالحة. بعد انتفاضة (2 يوليو) استجبنا وحدث ما حدث.. ونفس الشيء مع نظام الإنقاذ أولاً قفل كل الدروب وأعلن التمكين والإقصاء لكل الناس، وهذا ما ترك لنا مجالاً سوى المقاومة، وذهبنا وقاومنا إلا أنه هو نفسه انقسم على نفسه ما بين “البشير” و”الترابي”، ثم بدأ الاثنان يلوحان لنا بإمكانية الاتفاق على تطور سياسي ديمقراطي، يعني هم رأوا لدى انقسامهم أن ينفتحوا نحو الشعب السوداني، وأدى هذا الانفتاح إلى نداء الوطن الذي اتفقنا فيه مع المؤتمر الوطني أو مع الحكومة في عام 1999م، ووقعنا نداء الوطن ودخلنا معهم في تفاهم، واتضح لنا أنهم فعلاً أبرموا معنا نداء الوطن ولكنهم لم يكونوا مستعدين لدفع استحقاقاته، لذلك رفضنا الدخول معهم، واستمر حزب الأمة في المعارضة الديمقراطية، وما حدث بعد ذلك أنهم عندما رأوا أن حزبنا صامد في عدم المشاركة ويطالب بالديمقراطية تآمروا ضدنا مع السيد “مبارك الفاضل”، وفي ذلك الوقت كان العقيد “معمر القذافي” يسعى في أن ننضم للمؤتمر الوطني أو للحكومة التي أقنعت “القذافي”، وفي ذلك الوقت النظام السوداني صار جماهيرياً وأظهروا له كل الدلائل وكسروا السجن وغيروا سجن كوبر مثلما فعل هو في طرابلس، وأظهروا كثيراً من الأشياء لـ”القذافي” وأنهم صاروا نظاماً جماهيرياً، لذلك كان يضغط علينا للدخول مع النظام، ولكن حزب الأمة بالإجماع رفض في 18 فبراير 2001م أن ندخل في هذه المسألة، وعند ذلك حدث التآمر بين السودان وليبيا و”مبارك” على أن يختطفوا حزب الأمة وحاولوا ولكن فشلت مؤامرتهم الثلاثية، بعد ذلك ظل حزب الأمة يعارض.. ويعارض.. ويعارض على أسس ديمقراطية، وبعد ذلك حصلت اتفاقية السلام في 2005م، وكان حزب الأمة وحده من بين القوى السياسية الذي قال إن هذه الاتفاقية تهدف إلى أشياء ثلاثة هي: السلام والتحول الديمقراطي والوحدة الجاذبة، وكان هذا في يناير 2005م، بعد ذلك بأربعة شهور أصدر حزب الأمة كتاب (الاتفاقية والدستور في الميزان) وقلنا فيه إن هذا لن يحقق الوحدة لأن في الاتفاقية ما سيجعل الانفصال جاذباً وليس الوحدة، وأنه لن يحقق السلام لأنه علق الأمور بصورة يمكن أن تثير قنابل موقوتة، وفعلاً صارت قنابل موقوتة مثل بروتوكول أبيي وبروتوكول جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، وقلنا هذه ستفجر السلام.. والناحية الثالثة أنه لن يكون هناك تحول ديمقراطي، لذلك وحدنا الذين لم نشترك مع النظام.. هناك أناس اشتركوا معه في الأول ولكن حدث خلاف وتركوه، وهناك من انضم إليه بعد اتفاقية السلام، ولكن وحده حزب الأمة الذي رفض، وقال إن هذه الاتفاقية ستحقق عكس ما أعلنت، لأن بنيتها المذكورة في رأينا بنية (مخرّقة) وقلنا فيها العبارة (هؤلاء اتفقوا على اتفاقية فيها ضبط بالمواعيد والالتزامات بصورة دقيقة مثل الساعة السويسرية ولكن تركوا فيها خروقات وفجوات وعيوب مخرقة مثل الجبنة السويسرية)، لذلك هم تمنوا شيئاً وفعلوا ضده.. عشان كده عايز أقول على طول الخط كان موقف حزب الأمة الدائم المستمر هو الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، وهذا ما دعا مركزا عالميا في الهند إلى أن يضع اسمي ضمن مائة من أهم المسلمين في إدارة السلطة في القرن العشرين، وهذا نفسه من الأسباب التي جعلت مركز جائزة (قوسي) الشبيهة بجائزة (نوبل لاسيا) يختارني لجائزة السلام لعام 2013م.. المهم في كل هذا حينما حكمت لا يستطيع أحد أن يقول إننا اعتدينا على الحريات، ولا على استقلال القضاء، ولا على حرية الصحافة، ولا على استقلال النقابات وحريتها، ولا على كل ضوابط الديمقراطية، عشان كده البيقولوا هذا الكلام ويتهمونني بهذه الاتهامات ظالمون، وهذه الحقائق في رأيي تسكتهم.
{ بعد ظهور إرهاصات عن مشاركة حزب الأمة في الحكومة ثمة أحاديث تسربت عن قولك إن (الأمر يستحق النقاش) ما مدى صحة هذا الحديث.. وهل حدث حوار بينكم والحكومة وعلى ماذا تفاوضتم؟
– لا.. لا، نحن لم نقل إن المشاركة في الحكومة أمر يستحق النقاش، ولكننا قلنا إن الحوار مع النظام مبدأ نحن نستمر فيه، وعندنا دائماً بالنسبة لهذه الحوارات أسس، نحن نحاور المؤتمر الوطني ومستعدين نحاوره، ونحاور الأحزاب الأخرى، ونحاور كل الأطراف، ومشتركون في كل الحوارات التي تبناها الاتحاد الأوروبي وسويسرا، والتي تبناها “عزمي بشارة” في الدوحة في كل المبادرات الخاصة بكتابة الدستور وبمبادئنا، ولكن لا نتفق إلا في ما يتفق عليه رأينا في هذه المبادئ، ونحن أصلاً لم نقبل المشاركة في السلطة مهما عرضت علينا إلا على أساس مبادئ، والعبارة التي نقولها دائماً: (لا يهم من يحكم السودان ولكن كيف يحكم السودان)، فليحكم السودان أي من بنيه، وطول الزمن المؤتمر الوطني يعرض علينا المشاركة ونحن بنقول مافي مشاركة ما لم يتفق على أساس ديمقراطي، وفي كل الأحوال أساس النظام عندنا هو النظام الديمقراطي.. قالوا لينا مؤخراً تعالوا اشتركوا في لجنة الدستور وقلنا مافي مانع نحن مستعدين ولكن بشرط أن تكون الهيئة التي تدعو للدستور مستقلة وليس من المؤتمر الوطني ولا الحكومة، وأن تكون شاملة للناس لا تعزل أحداً ولا يسيطر عليها أحد، وأن يتضمن الدستور مبدأ إعطاء كل ذي حق حقه في إطار اتفاقيات السلام، بحيث إن اتفاقيات السلام تضمن الدستور حتى يكون الدستور وثيقة تتضمن الحقوق، كذلك ضرورة توافر الحريات، لذلك نحن قلنا للوفد الحكومي الذي دعانا للمشاركة إذا توافرت هذه الشروط نحن سنشترك وسوف نقنع آخرين ليشاركوا، وإذا لم تتوفر هذه الشروط لن نشترك.. آخر شيء جاءنا الدكتور “إبراهيم غندور” وطلب مننا أن نشترك معهم في وفد التفاوض من أجل السلام، فقلنا أنتم دعوتمونا كما يسمونها (عزومة مراكبية).. نحن ما ممكن ندخل في حاجة زي دي، ونحن عايزين الوفد الذي يشارك يكون وفد قومي ولازم نتفق على إعلان مبادئ، وأرسلنا هذا الكلام لمفاوضي الجانب الآخر، وقلنا لهم نحن نرى أن موضوع السلام يجب أن يضبط عبر مجلس قومي وأن ينطلق من فرصة لإعلان مبادئ، وقلنا لهم نحن لن نشترك في آلية لهذا إلا إذا كانت قومية وانطلقت من إعلان مبادئ التي نعتقد أنها مجدية في تحقيق السلام.