سحر كمال
منذ القدم كان استطلاع أو بحث الإنسان عن أرض صالحة للزراعة أو للصيد أكثر أماناً من سواها , وهي أول الأعمال الاستخباراتية التي قام بها وهو الاختصاص الذي يرافقه في كل خطواته على هذه الأرض , فحيثما كان هناك صراع أو تحديات كان هناك استطلاع ومحاولة لمعرفة ما يملكه الاخر في الصراع , هذه المعرفة تكاد أن تكون كسباً لنصف المعركة قبل بدئها.
ومنذ البداية كان لدى الأفراد المستطلعين الدور الأكبر في العمل وجمع المعلومات , وما إن تطورت الحياة والمجموعات البشرية حتى تطور العمل الاستخباراتي وأصبح قائماً على مؤسسات وتخصصات وبأسماء مختلفة حتى وصلت لاسمها الحالي (المخابرات) , ولا غرابة .. والحالة هذه أن تقاس الدول بقوة جهازها الاستخباراتي وما تملكه من معلومات.
كان الفراعنة ووفقاً للوثائق أول من استخدم العمل المخابراتي بشكل منظم في العام 5200 ق م حين قام الفرعون تحتمس الثالث بإدخال مجموعة من جنوده إلى داخل مدينة “يافا” بطريقة مبتكرة عندما تخفوا في أكياس القمح ليدخلوا مدينة بأسوار منيعة , وهناك نشط الجنود في إشاعة الفوضى داخل المدينة المحاصرة ونشر الاشاعات والارتباك في صفوف أهل “يافا” ووفقاً للخطة قاموا بفتح أسوار المدينة من الداخل لتسهيل دخول جيش فرعون إلى المدينة المحكومة يومئذ من الهسكوس , وهي حادثة ليست ببعيدة عن أسطورة حصان طروادة الشهيرة والتي خلصت إلى أن الأغريق عندما حاصروا طروادة واستعصى عليهم دخولها قام الإغريق بإرسال جواسيسهم لإقناع أهالي المدينة بقبول هدية الإغريق كعربون صداقة عن رغبتهم بالسلم وانهاء الحرب ؛ الحصان الذي بلغ طوله 108 متراً ووزنه قرابة ثلاثة أطنان مصنوعاً من الخشب مجوفاً وقد اختبأ الجنود داخله بمهارة , وعند دخول الحصان احتفلت المدينة بالسلام وتراخى جنود طروادة , وفي الليل تسلل جنود الإغريق من الحصان وقاموا بفتح ابواب المدينة لجيشهم الذي دخل واحتل المدينة !
كانت المخابرات والاستطلاعات رفيقة الحروب الدائمة فلا حرب يمكن كسبها دون امتلاك معلومات عن العدو وما لديه من معلومات وخطط , وقد خلف لنا التاريخ والأديان كذلك إشارات واضحة لوقائع العمل الاستخباراتي , وعند ظهور الإسلام لم يكن ثمة جهاز استخبارات أو عمل استخباراتي منظم .. وكان يتم الاكتفاء بارسال بعض الصحابة كأفراد إلى معسكر العدو لجمع المعلومات , حتى توسعت نسبياً مهمتهم في عهد الخليفة “عمر بن الخطاب” لتشمل مراقبة الولاة والمجتمع الاسلامي بعد تمدد الدولة , وتوسعت المهمة في العهدين الأموي والعباسي. ولكن التطور الأكبر حدث في في بداية العصر العباسي , أما في العصر الحديث فقد أسس الرئيس الأمريكي الأول “جورج واشنطن” أول جهاز مخابرات سمي وقتها بـ(الخدمات السرية)..
تطورت أجهزة المخابرات في العالم حتى أصبحت الحكومات تعتمد عليها بشكل كبير في تطبيق القانون وحماية الأمن القومي ، بالإضافة للمساعدة في رسم السياسة الخارجية للبلاد فمن أشهر الأجهزة العالمية وكالة الاستخبارات السرية الأسترالية (ASIS) والتي تعتبر من أكفأ أجهزة المخابرات في العالم والتي تتركز أنشطتها في آسيا والمحيط الهادئ , مديرية الأمن العام الفرنسية DGSE وهي الاسم الرسمي لوكالة المخابرات الفرنسية , جهاز المخابرات الروسية المعروف بGU بعد حل الكيه جي بي عام 1991 بعد عقب تفكك الاتحاد السوفيتي , الاستخبارات الاتحادية الالمانية BND وهو واحد من أكثر أجهزة الاستخبارات نشاطاً في مكافحة غسل الاموال والهجرة غير الشرعية , وزارة أمن الدولة الصينية MSS وهو جهاز مخابرات جمهورية الصين الشعبية وهو أكبر وكالات الاستخبارات وأكثرها نشاطاً علي سطح الارض , الموساد الاسرائيلي أو معهد المخابرات والمهمات الخاصة باسرائيل ومهمته تكمن قي جمع المعلومات وتنفيذ العمليات خارج حدود الدولة العبرية, جهاز المخابرات العسكرية البريطانية MI6 والذي أنشأ في العام 1909م ولم تعترف الحكومة البريطانية بوجوده حتى العام 1994م ولعب دور كبير خلال الحرب الباردة وعمل على تغذية حركات الانقلاب ضد الدول الحليفة للاتحاد السوفيتي , وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA وتعتبر أكبر وكالات الاسنخبارات في العالم على الاطلاق وتشير بعض الأرقام أن الوكالة لديها أكثر من 1000 عميل مزدوج حول العالم وتعتبر الوكالة الأكثر تمويلاً وتقدماً من الناحية التكنولوجية على الاطلاق ..
و في حقبة الاستعمار البريطاني للسودان بعد العام 1898 اهتم الحاكم العام الانجليزي بالنشاط الاستخباراتي والأمني لمواجهة هواجس عودة (المهدية) المناهضة الحكم الثنائي البريطاني المصري.
لكن أول جهاز أمن وطني قام بشكل احترافي ، كان جهاز الأمن القومي الذي أنشأ في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري مطلع سبعينيات القرن الماضي تحت قيادة عضو مجلس الثورة الرائد مأمون عوض أبوزيد ثم الرائد علي نميري لفترة محدودة ، إلى أن تولاه أشهر مدير جهاز مخابرات نائب الرئيس نميري اللواء عمر محمد الطيب إلى أن تم حل الجهاز إثرانتفاضة أبريل عام 1985 التي اطاحت بحكومة الرئيس جعفر نميري , وحينها أصدرت القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة في بيان حمل الرقم 5 قرار حل جهاز أمن الدولة وتولي قوات الشعب المسلحة حراسة وحصر ما به من أسلحة وأجهزة اتصال داخلية وخارجية ومعدات ووثائق في كافة انحاء القطر , وتم اعادة تكوينه باسم جهاز أمن السودان خلال الديمقراطية الثالثة في حقبة حكومة السيد الصادق المهدي وكان مستشاره (مديره) العميد عبدالرحمن فرح الموالي لحزب الأمة القومي.
و في بداية عهد الانقاذ، أشرف عضو مجلس قيادة الثورة العقيد بكري حسن صالح على إدارة الجهاز بمساعدة مدنيين تم تدريبهم مثل الدكتور نافع علي نافع و الدكتور قطبي المهدي .. و المهندس صلاح قوش في فترة لاحقة، بعد أن كان مديره بداية الإنقاذ العميد إبراهيم نايل ايدام الذي كان يعمل به منتدباً من القوات المسلحة منذ حكم الصادق المهدي.
و في العام 2004 تم دمج الأمن الداخلي والخارجي تحت مسمى جهاز الأمن والمخابرات الوطني بعد تجارب سابقة وصفت بانها الأسوأ في تاريخ السودان وذلك بعد أن أتُهم النظام السابق بممارسة تعذيب المعارضين عبر مجموعات أمنية في مواقع مختلفة أطلق عليها مسمى (بيوت الاشباح) وبناءً على الفكرة الجديدة تم توحيد جهاز الأمن الوطني ليضم أمن الداخل وعمل المخابرات المختص بالخارج ومتابعة نشاط السفارات.
بالرجوع إلى تاريخ فشل مهام الاستخبارات في العالم ، نجد تقارير تعود لسنوات تحذر من عمل إرهابي داخل الأراضي الأمريكية باستخدام الطائرات .. ولكن فشل كل من جهازي CIA و FBI في متابعة التخطيط لهذا النشاط الإرهابي راجع لعدم تنسيق المعلومات فيما بينهما وغياب ادراك حقيقي للخطر بواقعية أكثر وهو ما سمح بتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م ، وهو ما يقودنا إلى التساؤل حول دقة المعلومات التي توفرت لجهاز المخابرات السوداني قبل المداهمة الأخيرة لخلية إرهابية تتبع لداعش بضلحبة جبرة جنوب العاصمة الخرطوم قبل أيام ، و راح ضحيتها خمسة من ضباط جهاز المخابرات العامة.
والواقع أن أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للدول ليست خيراً أو شراً بحد ذاتها فهي مثلها مثل مشرط الجراح , قد يتحول إلى أداة قتل بيد قاتل أو مجرم وقد يكون وسيلة لإنقاذ حياة إنسان بيد جراح ماهر ، فهل ستعمل الدولة على تطوير جهاز المخابرات والاستفادة من درس حادث جبرة المأساوي ، و الاستفادة من تجربة جهاز أمن الدولة في عهد االرئيس نميري أم ستعمل على تفكيكه صامولة .. صامولة ؟!