الاعمدةصدى الصمت - مها الرديسي

ترييف المدن !

دائما ما راودتني فكرة الكتابة عن الهجرات الداخلية و التي حدثت في السودان في أزمنة بعيدة من الشمال و الجنوب والشرق و الغرب لوسط السودان و ما زالت مستمرة .. هجرات الشتات .. لإنسان الريف البسيط بسبب تعثر و توقف تنمية الريف و تمركز الخدمات الأساسية في المدن الكبيرة و تلك الحروب و النزاعات و الصراعات القبلية على الأرض و الماء و الكلأ و التي كانت سببا رئيسيا في كثير من المناطق ﻹستمرار التحرك و النزوح الداخلي لهذه المجموعات …

لا أجد مثالا أقرب من خفراء (غفراء) المنازل داخل المدن الكبيرة كنموذج مثالي للتأقلم الحديث لهذه الهجرات الداخلية للسكان من كافة أنحاء السودان للعيش في العاصمة القومية بمدنها الثلاث (الخرطوم .. الخرطوم بحري .. أم درمان ) بإعتبارها الشريحة التي تفوقت على نفسها و نجحت في عملية التعايش و التأقلم داخل هذه المدن .. هؤلاء المهاجرون يقومون بحراسة المباني السكنية تحت التشييد و بعد التشييد و يعملون في البناء و حفر الآبار و بيع الخضروات و الفواكه و كثير من الأعمال المهمة .. ايضا يعملون لحراسة المزارع الطرفية للمدن ..كل هؤلاء نجحوا في توفير المأوى والعمل المناسب لأوضاعهم الجديدة و نجحوا قبلها في الإفلات من مصيدة العيش في معسكرات المتضررين و النازحين بعد النزاعات غربا و شرقا و جنوبا ، حسموا أمرهم من البداية و شدوا الرحال نحو المدن الكبيرة ليرسموا نهايات متفاوتة و مختلفة فيما بينهم ..

المهاجرون في الداخل، هم مواطنون سودانيون مكفول لهم حق المواطنة بكل إمتيازاتها المتعارف عليها وفقا للإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان .. ليس هناك ما يمنع من التنقل والعمل للمواطن و محاولة توفيق أوضاعه للعيش داخل وطنه.

هذه الشريحة العريضة من المهاجرين داخلياً ظلت تعاني و تقاوم لسنوات طويلة في محاولة للتأقلم و التعايش مع حياة المدن الكبيرة و الشرسة وزاد الأمر صعوبة وجود ذلك التباين و الإختلاف الإثني و العرقي في السودان والذي يعتبر ميزة كبيرة للتعارف و التلاقح و التكيف بين هذه الثقافات في حالة الظروف الطبيعية.

بمرور السنوات تمددت المدن السودانية الكبيرة أفقيا دون تخطيط حضري إستراتيجي لتستوعب كل تلك الأعداد الكبيرة من المهاجرين من الريف للمدينة لمختلف الأسباب سالفة الذكر . وكما هو واضح من نتائج هذه الهجرة ، التمدد العشوائي و الأفقي للمدن مع عدم توافق الإمكانيات المتاحة بهذه المدن مع ضرورة توفير الخدمات الأساسية لحياة الناس من الكهرباء و المياه و المواصلات والبنية التحتية و التي هي أساس عمران المدن من طرق مسفلتة آمنة وصرف صحي وإنارة .. الخ … وظل كل هؤلاء المهاجرين داخل اوطانهم ، يطاردهم شبح الفقر و العوز و لم يجدوا صدوراً حانية عليهم إلا التكافل و التعاضد من المجتمع المدني ليحتوي تدفق كل تلك الموجات المتلاحقة من النزوح والتهجير القسري من مناطقهم بسبب الحروب.
و بطبيعة الحال واجهت الوافدين الجدد على المدن ، الكثير من المشاكل الإقتصادية و الإجتماعية و النفسية اثناء محاولات البحث عن سبل كسب العيش و المأوى و تغطية تكاليف التعليم النظامي للأبناء .. وهي مشاكل شائكة و عصية عليهم يصعب التعامل معها ، لأنهم لم يختبروا من قبل مثل هذه التعقيدات في حياة الريف التي كانوا يعيشونها .. كانت هنا المفارقة الحقيقية والصدمة .. فالحياة في الريف سهلة و بسيطة و هادئة و تسير بوتيرة روتينية عكس إيقاع الحياة في المدن الصاخبة و الملوثة و المستنفدة و المستنزفة للمدخرات المادية و البشرية .. لكن من الواضح و بما لا يدع مجالاً للشك انها شريحة ذكية جداً عرفت كيف تجد طريقها و تتأقلم بسرعة كبيرة مع مستجدات المدن الشرسة ، جميعنا يشاهد و يراقب ذلك الإنتشار الواسع لمجموعات المهاجرين على امتدادات المدن الثلاث وكيف انهم استقروا و سكنوا واثروا و بصورة كبيرة على تغيير ديمغرافية سكان المدن و كيف انهم عملوا على وضع تلك البصمة الريفية القوية و التي طبعت بجدارة على الطباع والسلوكيات العامة لأهل العاصمة القومية ليصبح الطابع العام غارقاً في خليط جديد وعجيب من نوعه و غير مفهوم و لا يستطيع الإنسان أن يميزه ..هل نحن نعيش حياة القرية أم حياة المدينة القروية …

و بالرغم من التشوه البشع الذي حدث للمدن الكبيرة والتخلف و العبء والضغط الكبير على الخدمات العامة بسبب هذه الهجرات المتوالية و العشوائية من الريف للمدينة ، و بالرغم من عجز الحكومات المتعاقبة عن حل و مقابلة مشكلة الهجرة من الريف للمدن و ذلك بإستيعاب هذه الهجرات و وضع البرامج الجادة لاستقرار المواطنين بالريف، بوقف الصراعات و نشر السلام و تنمية الريف .. بالرغم من كل هذا الواقع المرير ، أحس براحة نفسية كبيرة و بتحقيق جزء ولو يسير من مبادئ العدالة الإجتماعية المنشودة لهذه الشريحة المهضوم حقها ، المهاجرون ضحايا الفقر و الصراعات السياسية و النزاعات القبلية .. أحس بغبطة و شكر لله … عندما أرى أبناءهم يغدون صباحاً كالعصافير المغردة متسابقين وفرحين و منطلقين من بيوتهم الدافئة والمصنوعة من الحصير و أغصان الأشجار والخيش .. متوجهين للمدارس الحكومية بالقرب من مساكنهم .. تلك المدارس الحكومية المهجورة من قبل قاطني تلك الأحياء السكنية لإعتقادهم بتدني مستوى التعليم الحكومي … إنها عدالة السماء ..
غالبية المهاجرين داخل اوطانهم فهموا الدرس جيداً .. التعليم هو الحل لفرص حياة أفضل .. هم يتمتعون بكل خدمات تلك الأحياء السكنية من مدارس و مراكز صحية و مخابز .. الخ ..
سيكون المستقبل أفضل لأبنائهم ..

لا أعتقد أن هناك عودة عكسية قريبة لسكان الريف من المدن الكبيرة المتريِّفة .. و لا أظن أن هناك ريف بعد اليوم بالمفهوم التقليدي .. لقد تغير مفهوم الريف حول العالم بسبب متغيرات كثيرة .. أولها العولمة .. ليصبح ريف المستقبل مكان أمن للإستجمام و الإستمتاع بالخضرة والجمال و بكل الخدمات الراقية .
بعد اليوم ، الريف ليس مكاناً للشقاء و مكابدة العيش كما هو حال المدن الملوثة و المزدحمة بالسيارات والمكتظة بالسكان المتنافسين على الخدمات الرديئة فقد أصبح العيش فيها لا يطاق .

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية