(بخت الرضا) بين عقيدة الخُلوص الوطنية والنص الخلاسي!!
بالطبع يثير هذا العنوان (غَبشاً) كثيفاً حول بخت الرضا.. وصحيح أن عقيدة (الخلوص الوطنية) جاءت في جملة قصدت أن تفرّق بين لبن خرج للتو من ضرع لفم.. ولبن خالطه بعض عسل أو سمن فأصبح ابن أبوين.. أب من ضرع وآخر من خلية لا ضرع لها.. العبارة تفصل بين حدّين، أبيض لا يخالط بياضه ولا شعرة من خيوط الليل.. وليل لم تتسلل إليه شعرة من ضوء- هذا عقّد الأمر- دعونا نترك لدكتور “عبد الله علي إبراهيم” أن يوضح مقصد العنوان!!
يقول د. “عبد الله” عن بخت الرضا: (لم نخرج بهذا الكتاب لهدم بخت الرضا كخبرة في التربية السودانية وإنما لهدم هالة القداسة التي جعلتها وثناً ثقافياً سَدنُته غلاظ شداد.. وهذه جاهلية حالت وستحول بيننا وبين فهمها كخبرة تربوية سودانية كما يدعو سدنتها، هي خبرة جرت دراستها عند نقاد التعليم الاستعماري كنص (هجين) أو (خلاسي)، وتنامى الاهتمام بمثل هذا النص في المباحث بفضل مدرسة دراسات ما بعد الاستعمار التي أطلقها من عقالها المفكر الراشد الوسيم “إدوارد سعيد” ويعنون بـ(النص الخلاسي).. أن المستعمرة- خلافاً لقول قادة الحركة الوطنية- لم تنقسم إلى وطنيين خُلّص وإنجليز خُلّص على طول الخط، بل اختلط الاثنان اختلاطاً تعمينا عنه عقيدة الخلوص الوطنية من (أوشاب) الاستعمار، بل هناك من يقول إن هذه الخلطة بلغت الغاية عند الوطنيين أنفسهم.. وتريد هذه المدرسة أن تقف على هذه (الأوشاب) بدراسة النصوص الخلاسية مثل رضا.. فليست رضا كما ظنها الوطنيون الأبكار مجرد (دنس استعماري) نتبرأ منه، فهي طاقة وطنية كما حاولنا بيان ذلك في فصول مثل (دمع العين يزيل ألمي) من هذا الكتاب، ولكنها طاقة شكّلها الاستعمار وفق منطقه ومقاصده في ثقافة قوية (دعك من حسنها وقبيحها) بقيت بعده، وسنضل في العلم بالاستعمار وبأنفسنا إذا اعتقدنا أنه رحل عنا وتركنا كصحن الصيني لا شق ولا طق..).
د. “عبد الله علي إبراهيم” لا يكتفي بهدم القداسة في بخت الرضا وإنما يصرخ في باب من كتابه (بخت الرضا: التعليم والاستعمار) تحت عنوان “بخت الرضا الحكمة انجليزية” هاتفاً: (لا خلاف أن بخت الرضا منشأة استعمارية.. فكرتها الجوهرية في ترييف التعليم، أي جعله خادماً لحاجيات أهل الريف.. وكان اختيار الموقع للمعهد التربوي الجديد في بخت الرضا بجهة الدويم من إملاء سياسة ترييف التعليم.. فبخت الرضا بلدات لبدو يزرعونها في الخريف ويحصدونها ويخزنون عيشهم بها..)، ويمضي قائلاً: (ولم تلق تجربة ترييف التعليم نجاحاً باعتراف قريفث..).
ثم يستشهد د. “عبد الله إبراهيم” بالدكتور “عبد الله الطيب” في باب من كتابه تحت عنوان: (عبد الله الطيب: بخت الرضا بغير عين الرضى).
يقول د. “عبد الله”: (في رأي البروفيسور عبد الله الطيب أن التعليم قد أصابه “خلط عظيم” من قريفث أول مدير لبخت الرضا لتغريبه التعليم عن بنية الطالب، وهي عاهة لا مناص منها في تعليم يضعه مستعمر منقطع عن روح المجتمع وقيمه، فالمستعمر لم يرد من التعليم تربية الناشئة تربية تثقفهم وتقومهم، بل المطلوب أن يتوسل به الطالب إلى المكانة والجاه عند المستعمر..).
ويضيف د. “عبد الله علي إبراهيم” مستشهداً بقول د. “عبد الله الطيب” عن كتاب الأطفال الذي ألفه الإنجليزي “اسكوت” والذي اتبع في كتابه الطريقة التحليلية في تعلم اللغة، وهي طريقة خلت من (البركة) في رأي البروفيسور “عبد الله الطيب”، ويفسر د. “عبد الله علي إبراهيم” نظرية (البركة) فيقول: (ويعني بالبركة أن تكون للعبادة جذور في لغة المنزل وروح الثقافة)، وللحصول على (البركة) في تعليم اللغة العربية يرى البروفيسور صواب العودة عن كتاب الأطفال إلى طريقة الخلوة في تعليم اللغة العربية.. فطريقة الخلوة عنده تجمع بين المذهب التحليلي الذي يستذكر به التلميذ الحروف وحركاتها، أي جزئيات اللغة، ومذهب التركيب المستمد من روح إدراك الجمل والكليات تلقيناً على الرمل أو اللوح بغير احتفال بالتهجي أو الكتابة.. ثم تأتي المرحلة التالية وهي الإملاء أو الكتابة من نصوص قرآنية وهنا موقع “البركة” لأن التلميذ لا يخضع لجمل مصنوعة، بل يتلقى العربية عن طريق نصوصها وأكثرها سحراً..).
يذكر د. “عبد الله علي إبراهيم” مستشهداً بدكتور “عبد الله الطيب” خصماً على قدسية بخت الرضا.. كيف سخر د. “عبد الله الطيب” سخرية مُرة من جملة مستكرهة كانت بكتاب مطالعة درسه هو بـ(الكُتاب)، وكانت الجملة هي: (أين الفيل يا خليل؟)، وقال إنهم قرأوا الكتاب ببلد غير ذات فيل ولا حديقة حيوان، ولم يروا الفيل إلا في صورة مصاحبة للدرس!!
ظل د. “عبد الله علي إبراهيم” يذكر نقد د. “عبد الله الطيب” في منهج بخت الرضا واستحسن هو هذا النقد، بل جعله أحد أسانيد حُجته في كسر القداسة فقال: (لقد جاء البروفيسور بمفهوم ثوري عن البركة في التعليم، وهي بركة تنجم عن تناغمه مع المجتمع. وهو مفهوم على خلاف جوهري مع مبدأ بخت الرضا كما فصله “قريفث” في كتابه عن تجربته في ذلك المعهد. فقد قال إنه اتضح له بخلطته بالتلاميذ السودانيين أن خلفيتهم الثقافية والبيئية محدودة. وتبعاً لذلك فمناهج بخت الرضا قد جرى تصميمها لمدرسة غنية في مجتمع فقير في الثقافة.. ونتحدث عن مفهوم البركة وتبخيس “قريفث” لثقافة التلميذ في المرة القادمة..
أتوقف هنا قبل أن يواصل د. “عبد الله علي إبراهيم” حديثه والتفت للضفة الأخرى من بخت الرضا، وأتصفح بعض صفحات كتاب الأستاذ “حسين الخليفة” أحد سدنة معبد بخت الرضا إن لم أقل كبير (الكرادلة).
يقول الأستاذ “حسين الخليفة” على لسان الشاعر “عمران العاقب”، وهو أول أمين لمكتبة بخت الرضا متحدثاً عن بخت الرضا محاولاً أن تنال الرضا قائلاً:
(كانت بلادنا في قبضة المستعمر في القرن المنصرم وشهدت تحولاً في نهج التعليم، حيث صار التعليم النظامي هو السائد والذي شرع في تطبيقه ببلادي مستر “جون كيري” أول مدير للمعارف “التعليم” بالسودان عام 1930م، وكان هدفه هو تأهيل وتدريب المعلم ليصبح نواة لمعلم المدرسة الابتدائية يومذاك “الأساس اليوم”، فبادر بإنشاء معهد لهذا الغرض، واختار له معلماً متمرساً بريطاني ليدير دفته هو المستر قريفث (Grifiths) واختار الموقع الحالي لعوامل تربوية وريفية توفرت فيه، وانطلق اسمه ذاك “بخت الرضا”.. وقد ساعد ذلك الحماس الدافق الذي أبداه مواطنو الدويم بالمساهمة والمشاركة المادية والعينية في الحرص على اختيار الموقع، وفور تحديد الموقع وتسميته عكف مستر “قريفث” ورفقاء دربه مستر هود جكن، وعبد الرحمن علي طه، ونصر الحاج علي، وعثمان محجوب، وسر الختم الخليفة، وهم الصفوة التي وضعت القواعد وأسس التربية في السودان، فعكفوا جميعهم على وضع رسالة وأهداف قيام بخت الرضا ونلخصها في: تأهيل وتدريب المعلمين أكاديمياً ومهنياً، ووضع منهج يتوافق والبيئة الريفية السودانية بشتى ضروبها، وتطوير التعليم وربطه بالمجتمع السوداني، والمشاركة في تنمية المجتمعات المحيطة عبر تعليم الكبار وأندية الصبيان كان لها القدح المُعلى في إثراء التنمية البشرية).
يستطرد الأستاذ “حسين الخليفة” معجباً ومؤمناً على شهادة الأستاذ “عمران العاقب” متحدثاً عن هاجس مستر “قريفث” في دور المعهد.
(كان هاجس “قريفث” وصحبه هو بناء شخصية المعلم، فحدّدوا المبادئ لخلق معلم كفؤ صالح يتميز بالصفات الخلقية السمحة، متسلحاً بقدرات ومهارات عديدة تتوثق بها الروابط بين المعلم والمتعلم والمجتمع، التي شملها كتاب مستر “قريفث” مبادئ الأخلاق.. فهكذا اهتمت بخت الرضا بجوانب تربوية مهمة وكلها تسعى للنهوض بالمجتمع عبر المعلم، فهو الذي يُثري الحضارة بثاقب فكره وبزاده الأكاديمي والمهني الثر).
ثم يستعرض الأستاذ “حسين” أفضال ومآثر بخت الرضا، وهو المثابر والحريص على أن تظل بخت الرضا وجبة يومية في الصحف والمنتديات، وظل يرفد الصحف بالعديد من المقالات التي جعلها جزءاً من كتابه القيّم..
ويفرد الأستاذ “حسين الخليفة” باباً في كتابه بعنوان (المعلم بعيون الصحافة) وباباً عن (معلمي العصر الذهبي) وقد وثق لـ(56) معلماً هرماً، وهو أول توثيق لعماليق المعلمين من لدن “حاجة كاشف” ود. “سعاد إبراهيم عيسى” و”نفيسة أحمد الأمين” ود. “سعاد الفاتح” و”فاطمة طالب” و”ثريا امبابي” و”سارة الفاضل محمود” و”أم سلمى سعيد” و”محاسن جيلاني”.. أما من الرجال الأفذاذ في مهنة التعليم فشمل التوثيق “رحمة الله عبد الله” ود. “أحمد الطيب” و”عبد الله الشيخ البشير” و”قاسم بدري” و”النصري حمزة” و”علي النصري” و”بابكر بدري” و”السر دوليب” وعدد آخر.
ويذكر المؤلف “حسين الخليفة”، وقد شفع الذكر بصورتين للأمير “فهد” والأمير “خالد” ابني المؤسس جلالة الملك “عبد العزيز آل سعود”.. ذكر أن الأميرين كانا تلميذين ببخت الرضا!!
وأقول وبكل الصدق إن هذا الكتاب وثيقة قيّمة وجادة حفظت لهذا المعهد تاريخه وعطاءه.. سواء اتفق معه الناس أو اختلفوا.. غير أنه من الواجب أن أقول أيضاً إن كتاب د. “عبد الله علي إبراهيم” قد ألقى حجراً (قرانيتياً) في بِركة قداسة بخت الرضا، وهو لا يقول قولاً سهلاً إنما يقطع جزماً بقول يملأ الفم والكفين!!
دعني وأنا أختم الحديث عن بخت الرضا أن أنقل جزءاً من قول د. “عبد الله علي إبراهيم” في شأن تعليم بخت الرضا..
يقول د. “عبد الله”: (… فالواضح أن المنهج الدراسي الذي تأسس في معهد بخت الرضا التعليمي والتربوي يفترض أن التلميذ متى قطع “عتبة” المدرسة أصبح لوحاً ممسوحاً من كل معرفة سابقة مستمدة من نطاق مجتمعه الصغير، وفي غياب هذه المعرفة تولى المقرر المرسوم حقن الطالب بمعرفة حديثة نافعة أو تجريعها له.. فجلية الأمر أن المدرسة لم تر في هذه المعرفة ما يستحق التوقف عنده أو تضمينه في مقرراتها، فهي في نظر المستعمرين لون من طمطمة البدائيين وخرافاتهم وترهاتهم التي طوى المسافات طياً ليحررهم منها بقوة السلاح وليتدرج بهم على مدرج الرقي والحضارة..).
ويستشهد د. “عبد الله علي إبراهيم” بكتاب مستر “قريفث” نفسه فيقول: (وقد راعني ما قرأته في كتاب فريفث مؤسس بخت الرضا عن فقر بيئة التلميذ السوداني حتى احتاجت المدرسة أن تبدأ معه من الصفر.. وقد أعجبه نجاح بخت الرضا في جعل “فسيخ” محيط الأهالي عديم التربية إلى “شربات” فقال إنه كان يشاهد بفخر تلاميذ بخت الرضا الأولية في حصص الجغرافيا يتبعون خريطة بأيديهم ليبلغوا كنزاً مدفوناً في موضع ما. امتنّ قريفث بذلك علينا بنسبة ذلك كله إلى شغلهم ببخت الرضا.. وربما لم يدر قريفث أن من بين هؤلاء التلاميذ من نشأ في محيط بدوي وغير بدوي يحسن قِيافة الأثر، ويتبع أثر الناقة المسروقة أو الضالة بحرفية ونباهة.. وقد قال د. عبد الله الطيب إن التلاميذ العارفين بمعالم الخريطة بحكم مواطنتهم كانوا يبلغون الكنز بغير حاجة للخريطة، أي أنهم “يخرمون” للموضع المعروف لديهم ثم يكذبون في تقريرهم عن كيفية بلوغهم.. و”التخريم” هو غاية الثقافة نختصر به الطريق للحق أو الأهداف متى ما أحسنا معرفة قسماته ومناحيه..).
وبعد
استمتعت تماماً بقراءة الكتابين، وأعترف أني اجتزأت من الكتابين فقط صفحات لا تغني القارئ أن يتفرغ لهما قراءة وتعليقاً..
وربما تثير هاتان المقالتان بعض نقاش.. ربما..