ربع مقال
د. خالد حسن لقمان
.. بأي حال عدت يا عيد ..؟ .. هو الشطر الأول لقصيدة المتنبئ التي خلدها الدهر بأكثر من ما خلد وأبقي قصائده الأخرى .. ليس فقط لانها وثقت لسجاله المثير مع المال والسلطان ولكن أيضاً لهذه القدرة التصويرية العبقرية الفذة للواعج النفس عندما تقسو الحياة و لا يبقي للمرء سوي الهم والوحدة .. والمناسبة التي أخرجت للوجود هذه القصيدة المذهلة كانت تلك الليلة التي قرر فيها ابي الطيب المتنبي الهروب من سلطان كافور الاخشيدي في ليلة العيد وهو فيها يبعث لنفسه ما يثبتها علي قرار هروبه و يبرره برغبته في العلم و التعلم و الأخذ بأسباب حياة الحرية و الانطلاق الذي لا يحكمه سلطان متسلط جائر ولا تحوطه اسوار مدن حبيسة اقدارها البائسة الا ان عبقرية الرجل تجلت بقدرته في الابقاء ومع هذه التطلعات و الآمال علي مناخ القصيدة كما اراده في آلامه وأحزانه و همومه بحيث لم يخلو بيت فيها من لحظة حزن أو آهة ألم حتي جعل من ليلة العيد زماناً لغير زمانها وأوانها وهي المفارقة التي خلدت القصيدة و ابقتها بعد صاحبها لتتكرر علي شفاه بعضهم هنا أو هناك عاماً بعد عام .. و ما أشبه ليلتنا نحن السودانيون اليوم بنفس المتنبي و لوعاته ونحن نستقبل عيدنا هذا العام و في قلوبنا الأحزان و في نفوسنا الآلام و علي صدورنا تجثو الأقدار المظلمة التي لا نكاد نري بعدها غداً مشرق :
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا
وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ
وَكَانَ أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً
أشْبَاهُ رَوْنَقِهِ الغِيدُ الأمَاليدُ
لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي
شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ
يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما
أمْ في كُؤوسِكُمَا هَمٌّ وَتَسهيدُ؟
أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني
هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ
إذا أرَدْتُ كُمَيْتَ اللّوْنِ صَافِيَةً
وَجَدْتُهَا وَحَبيبُ النّفسِ مَفقُودُ
ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُهُ
أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ
أمْسَيْتُ أرْوَحَ مُثْرٍ خَازِناً وَيَداً
أنَا الغَنيّ وَأمْوَالي المَوَاعِيدُ
إنّي نَزَلْتُ بكَذّابِينَ، ضَيْفُهُمُ
عَنِ القِرَى وَعَنِ الترْحالِ محْدُودُ
جودُ الرّجالِ من الأيدي وَجُودُهُمُ
منَ اللّسانِ، فَلا كانوا وَلا الجُودُ
ما يَقبضُ المَوْتُ نَفساً من نفوسِهِمُ
إلاّ وَفي يَدِهِ مِنْ نَتْنِهَا عُودُ
.. رحمك الله أبا الطيب ورحمنا نحن السودانيون و أفلتنا مما نعيشه من واقع جعل نهارنا كليلنا وليلنا كنهارنا لا نرى في هذا ضياء شمس ولا في ذاك نور قمر .