أخبار

بخت الرضا .. بين الـ (نوستالجيا) والقداسة!!

بين يديَّ كتابان عن بخت الرضا: كتاب صدر من سلسلة “كاتب الشونة”، الإصدارة الأولى، تحت عنوان: (بخت الرضا: التعليم والاستعمار) للكاتب المفكر د. “عبد الله علي إبراهيم”..
وكتاب آخر: (بخت الرضا.. ومعلمو الزمن الجميل.. صناع المجد) للأستاذ المعلم “حسين الخليفة الحسن”..
وكلٌّ يقدم وجبة فكرية مشبعة.. وكل يقدم أطروحة يحشد لها الشواهد والصور والأسانيد.. وبين الاثنين يقع مؤيدو كل كاتب بين شقي الرحى، فتدمع عين وتنفرج شفة في ابتسام أو تكشيرة خجولة..
ويجهر ولأول مرة في علمي – والله أعلم – كاتب بهذا القول البواح.. الجريء الصارخ وربما “الخادش” لقدسيَّة بخت الرضا.. فيقول.. وقد تعودت على أن أسمع من صديقي د. “عبد الله علي إبراهيم” القول الصريح.. يقول مجاهراً:
(… لا خلاف أن بخت الرضا منشأة استعمارية، وسنقف على ملابسات نشأتها وفلسفتها خلال فصول هذا الكتاب، وصارت هذه المؤسسات موضوع نقد صارم كما طلب “ماقمان” في أدبيات مدرسة ما بعد الاستعمار العائدة للدكتور “إدوارد سعيد”.. إلا أنه مما يزعج أن معهد التربية ببخت الرضا، مهما قلنا عن حسناته، اكتسب صفة القداسة.. فلا نقد يطاله لأنه التعليم الخاتم عند جيل من التربويين وغيرهم. ومن أدخل الأبواب على “كهنوتية” بخت الرضا هو أن الصفوة المحدثة واليسارية قد بِطل عندها بالكلية نقد الاستعمار، وسبب ذلك هو خيبة الحركة الوطنية ودولتها التي ألجأت الصفوة – من فرط قلة الحيلة – لترى في عهد الاستعمار عصراً ذهبياً نبيلاً، وشاعت العقيدة في صواب الاستعمار حداً مزعجاً…).
ثم يستطرد قائلاً: (وذاعت عِزة التربويين ببخت الرضا بين العامة.. فالسيد “هاشم مساوي”، الذي لا أعرف إن كان معلماً أم لا.. وصف المعهد بأنه هدية الإنجليز لنا، فرأى فيه شموخاً وراءه أهداف واضحة وبعد نظر نفقده الآن كثيراً. وزاد قائلاً بأنه صرح دعاه مستر “قريفث – أحد أبناء جون “الإنجليز” الذين ألقت بهم يد القدر في أرض السودان – ليهدي الأمة السودانية كنزاً ما عرفوا التعامل معه..).
وينقل لنا د. “عبد الله” كيف أنه عثر، وهو يقلب أوراق برامج الأحزاب السودانية السياسية المعروفة، لمعرفة رأيها في إصلاح التعليم قبيل الانتخابات الماضية 2010، أنه عثر في كتاب (حزب الأمة.. أوراق المؤتمر العام الثالث 2009) ورقة عن التعليم.. يقول: (تكاد تكون إطراءً عظيماً لمعهد بخت الرضا، فسمته “المعهد العريق” كثير المهام و”بيت الخبرة”، والشمس التي تدور حولها أفلاك المعاهد الأخرى).. وأضاف أن ورقة حزب الأمة قالت: (هذا الصرح الذي علمنا أن نمتلك سلاح المعرفة، والأجيال التي تخرجت بواسطته أجيال لا شبيه لهم في الألفية الثالثة).
ويعلق “عبد الله” على ورقة حزب الأمة قائلاً: (تمثل عبارة حزب الأمة في التعليم حالة انفصام معرفي.. وهذا الانفصام المعرفي هو الأصل في النوستالجيا ضاربة الأطناب بين صفوتنا البرجوازية الصغيرة التي ترهن النهضة بالعودة إلى مؤسسات الزمن الجميل الذي مضى).
عند عبارة (الزمن الجميل) أتوقف قليلاً لأعرض من الضفة الأخرى لنهر بخت الرضا، وأقف برهة لنرى ما في الضفة الغربية “لبحر أبيض” عند بوابة بخت الرضا، وقد زين الأستاذ المثقف “حسين الخليفة” غلاف كتابه (.. ومعلمو الزمن الجميل).
كتاب الأستاذ “حسين الخليفة” يبدو أنه لن يكون الكتاب الأخير، وإنما ستتلوه عدة مجلدات لأنه كتب عليه “المجلد الأول”، وحقيقة أنه مجلد وسفر كبير..
والكتاب يختار خياراً مغايراً لما يرى د. “عبد الله علي إبراهيم”.. بل ربما يضيف للقدسية “قبة ومسيداً”.
قدم للكتاب البروفيسور “الطيب حاج عطية” ويقول عن الكتاب:
(هذا السفر الذي بين يديك – القارئ الكريم – هو مساهمة جادة وملتزمة للتوثيق في تاريخ التعليم الحديث في السودان.. بذل فيه المؤلف جهداً بيناً استغرق زماناً وعملاً مضنياً حتى تكون كل هذه المعلومات والمعارف بين أيدينا، وكل من يعرف المؤلف تتأكد عنده قيمة هذه الوثيقة التاريخية..).
ثم يقول : (فالأستاذ “حسين الخليفة الحسن” هو ذاته من معلمي ذلك الزمن الجميل ومن عاصروا مسيرة بخت الرضا الرائعة منذ عهدها الأول).
جاء الكتاب في ثمانية عشر باباً، ولن أستعرض كل أبواب الكتاب، غير أن الباب الأول يتحدث عن التعليم في السودان قبل قيام بخت الرضا.. متحدثاً عن مدرسة رفاعة ومدرسة بابكر بدري كأول مدرسة نظامية لتعليم البنات في السودان..
ثم يتحدث في الباب الثاني عن نشأة بخت الرضا والانطلاقة الكبرى.. وهنا يتحدث عن نشأة بخت الرضا في العام 1934 كبديل لمدرسة تدريب مدرسي المدارس الأولية (العرفاء) التي تم تحويلها من كلية غردون بالخرطوم واستقرت في مكانها الحالي على بعد ثلاثة كيلو مترات شمال مدينة الدويم.
ثم يتحدث عن كيف جاء الاسم “بخت الرضا” ويقول: (في بداية الأمر لم يحدد اسم خاص لها، ولكن الأمر استقر على تسميتها بمعهد التربية ببخت الرضا، وقد نقل الاسم “بخت الرضا” من اسم امرأة كانت تحرس “المطامير” هناك).
ثم يسرد المؤلف النشأة وتاريخ المعهد بدءاً من لجنة “ونتر” وانتهاء بتوصيات اللجنة وأهمها: (أن يقام مركز تدريب في منطقة ريفية بدلاً هن مدرسة “العرفاء” في الخرطوم).
أما لماذا اختيرت منطقة الدويم، فذلك لأن الدويم تقع في وسط السودان، وكذلك لأنها وسط ريفي يمثل معظم المناطق الريفية في السودان، وذلك لتدريب معلمين يصلحون للعمل في بلاد معظمها من القرى والأرياف.. ويستشهد الكاتب المتيم بحب بخت الرضا، ببيتين من الشعر يصفان ما كان قبل وما أصبح بعد..
(بخت الرضا
فيما مضى.. قطيتان في الفضا
واليوم أسفرها الفضا..
فغدت بلاداً راقية)..
ويمضي المعلم الكاتب المؤلف وهو يسترخي على أوراق الكتاب مسترسلاً في استعادة الزمن الجميل، مردداً قصيدة الشاعر “عمر أبو القاسم” التي أصبحت (إلياذة) تردد في كل عيد لبخت الرضا..
(بعزم اليد ورأي سديد
سنمضي حثيثاً إلى ما نريد
نشق الصعاب نخوض المحن
لنحيا كراماً ويحيا الوطن
فيا معهداً مشرقاً كالصباح
أنر للشباب طريق النجاح
فأنت الرجاء وأنت الدليل
بنور العلوم تضيء السبيل
فعش معهدي واحمل المشعلا
وحث الركاب لنيل العُلا
فإنا سنمضي إلى ما نُريد
بعزم أكيد ورأي سديد)
لقد انتشرت هذه الأبيات عبر خريجي بخت الرضا في مدارس السودان المختلفة منذ الخمسينات..
والأستاذ “حسين الخليفة” من أبناء الضفة الأخرى لبخت الرضا، وهي ضفة مغايرة تماماً للضفة الأخرى من بخت الرضا التي يحرسها د. “عبد الله علي إبراهيم” الذي له في بخت الرضا قول آخر جريء.. وقد استعرضت جزءاً منه.. وأرجو أن أوضح وجهة نظر عاشق بخت الرضا الذي يبكي زمانها الجميل.. يقول الأستاذ حسين: (لقد استطاعت بخت الرضا بفضل روادها الأوائل ومن أتى من بعدهم أن تكسب سمعة طيبة على المستوى الإقليمي بل العالمي، وصارت لها مكانة مرموقة بين التربويين، وتراكم لها رصيد تربوي ثر، كما أصبح لاسم بخت الرضا صدى خاص في نفوس كل سوداني، كيف لا ومن السودانيين من قضى جزءاً من حياته دارساً في مدارسها ومعاهدها، ومنهم من تتلمذ على خريجيها، ومنهم من كانت دراسته على مناهجها).
على أن عطاء بخت الرضا لم يكن وقفاً على السودانيين وحدهم، بل عمّ بعض دول المنطقة العربية والأفريقية، ففتحت أبواب مدارسها ومعاهدها لأبناء تلك الدول الذين ولجوها زمراً لينهلوا من علمها.
ويمضي الأستاذ “حسين” مسكوناً بحب بخت الرضا وشارحاً فضلها، وحُق له أن يفعل كل ذلك، فهو واحد من أبنائها وثمرة من غرسها وخريج من طلابها!!
يقول وكأنه يخاطب د. “عبد الله علي إبراهيم”:
(… لقد كانت بخت الرضا بوتقة لانصهار أبناء السودان من مختلف جهاتهم وأعراقهم.. فالطلاب يغدون إليها من كل صوب وهم يحملون عاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم وكل ما يميز ثقافاتهم المحلية، ويلتقون جميعاً في الداخليات وبين الفصول والميادين والحقول وأثناء المعسكرات والرحلات والأعياد.. وهم في كل هذه الأصعدة يلتقون مندمجين كأفراد أسرة واحدة، فتزول الفوارق بينهم وتتقارب الشقة، فتتلاقح الثقافات وتتم عملية تبادل الخبرات أخذاً وعطاءً.. هذا التلاقح أثمر مواطناً سودانياً متشرباً بروح الوحدة الوطنية التي حدت من غلواء القبلية والجهوية التي كان يتمسك بها الناس في ذلك الوقت).
ثم يسرد المؤلف أفضالاً كبيرة لبخت الرضا، ثم يصل لمبتغى أراد أن يجليه ويقف عليه شامخاً .. فيقول:
(… هكذا، فإن طبيعة العمل والدراسة في معهد بخت الرضا قد عجمت أعواد أبنائه من الأساتذة والخريجين، وأهلتهم للعمل في أرفع المناصب وفي شتى ميادين الحياة ومناصبها، فوصل بعضهم إلى سدة الحكم في أرفع مستوياتها، رئاسة الوزارة، الأستاذ “محمد أحمد محجوب”، و”سر الختم الخليفة”، ومنهم من قاد المجالس التشريعية الأستاذ “محمد الحسن دياب”، الأستاذ “عز الدين السيد”، وتقلد الكثيرون منهم المناصب الوزارية منذ الاستقلال وحتى عصرنا الحاضر، ونذكر منهم أول وزير للمعارف الأستاذ “عبد الرحمن علي طه”، ومن الذين شغلوا مناصب وزارية الأساتذة “عز الدين السيد”، “محمد توم التجاني”، “حسن أحمد يوسف”، “عز الدين الحافظ”، د. “محمد خير عثمان”، د. “بشير حاج التوم”، “محجوب البدوي”، “محمد توفيق محمد خوجلي”، “محجوب مكاوي”، “أحمد إبراهيم دريج”، “إبراهيم منهم منصور”، المهندس “محمود بشير جماع”، اللواء “إبراهيم نايل إيدام”، د. “عمر نور الدائم”، “محمد طاهر حمد”، “موسى عوض بلال” وغيرهم.. وتولى أحد أبناء بخت الرضا الذين عملوا فيها إدارة أكبر مشروع اقتصادي بعد السودنة مشروع الجزيرة الأستاذ “مكي عباس”.. وكان أول مدير لجامعة الخرطوم من أبناء بخت الرضا “نصر الحاج علي”، وأول عميد للمعهد الفني الأستاذ “علي حسني”.. ومن رجال الأعمال السيد “كمال حمزة” ود. “خليل عثمان”..).
وامتلأت صفحات الكتاب بمئات الأسماء..
والسؤال: هل هذا ينفي مقولات د. “عبد الله علي إبراهيم”؟
سنرى كيف أوضح الأمر د. “عبد الله علي إبراهيم” رافضاً النوستالجيا والتقديس..
أواصل

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية