لمبدعي السودان .. قضيّة
المبدعون في بلادي يعيشون الفاقة والفقر على كافة مستوى الإبداع: شعراء، كُتاب رواية، أهل الدراما والتمثيل، تشكيليون، موسيقيون، مغنّون، إلى آخر تصنيفاتهم.. وجلّهم لا يعملون في الخدمة العامة التي تعطي مرتباً شهرياً ومعاش ما بعد الخدمة. وبرغم أن لهم كيانات واتحادات، إلاّ أن أحوالهم لا تسرّ عدواً أو صديقاً، وحتى الاتحادات العريقة كاتحاد الفنانين الذي صار يسمى اتحاد المهن الموسيقية، أيضاً حاله وحال أعضائه لا تسرّ، برغم أن بنيان الدار أنيق ويقع على مقربة من النيل، بالقرب من حديقة الموردة. ولعلم القارئ هنالك عدة دور للمبدعين بأم درمان والخرطوم وبحري، غير أن نشاط أعضائها محدود ومحبط، لا يرقى لطموحات قبيلة الإبداع، التي من المفترض أن تقود حياة الناس بإبداعاتهم..
دعوني أحدثكم عن تلك الدور، وأسرد عليكم بعض التفاصيل الخاصة بأنشطتها، وما يحدث في دهاليزها، باعتباري أحد المنسوبين لقبيلة المبدعين، وأبدأ باتحاد شعراء الأغنية الذي أتمتّع بعضويته منذ أمد بعيد.. تأسّس اتحادنا منذ عقود من الزمان، وأزهى عهود ازدهاره في سبعينيات القرن الماضي، حين كان يترأّسه الشاعر المرحوم “مبارك المغربي” الذي استطاع أن يلمّ شمل كل الشعراء: الحقيبة والمحدثين، وأسس ندوة الأربعاء من كل أسبوع، يؤمّها كافة الشعراء ومحبي الشعر، ومكان تلك الندوة كان المجلس القومي لرعاية المبدعين بالخرطوم شرق.. وللاتحاد دستور، ونظام أساسي، ومكتب تنفيذي، ومشاركات مقدرة في كافّة منابر الثقافة بالعاصمة والولايات، وخارج حدود الوطن.. وقبل رحيل “المغربي” انتقل الاتحاد لنادي الخريجين بأم درمان، وقبل ذلك مارس نشاطه بدار غرب شرق سرايا السيّد “عبد الرحمن الميرغني” بالعباسية، وبعدها تراجع نشاط الاتحاد لسنوات، وكانت كل تلك الدور الثقافية تتبع لمسجل عام الكيانات الطوعية حتى العام 1996م، ليتمّ فصلها لتتبع لمسجل الكيانات الطوعية الثقافية التابع لوزارة الثقافة والإعلام الاتحادية وفق قانون خاصّ بها، أنشئ في نفس العام، وعليه صارت كل الكيانات الطوعية العاملة في مجال الثقافة تخضع لهذا القانون.. وتحصل اتحادنا على قطعة أرض جنوب المسرح القومي، وعلى مرمى حجر من النيل الخالد الجميل، وجنوباً مباشرة اتحاد فنّ الغناء الشعبي، ومبنى تلفزيون الولاية.. غير أن مبنى اتحادنا لم يكتمل منذ سنوات.. وبالمناسبة شكراً للصديق “صلاح إدريس” الذي تبرع بخمسين مليون (بالقديم)، وكنا نطمع أن يتبرع آخرون لإكمال دار الاتحاد.
وهنالك الاتحاد القومي للشعراء والأدباء الذي استأجر شقة بشارع الزعيم الأزهري، وهنالك دار فلاح لتطوير الغناء الشعبي، ومقرّها في أم درمان بنادي العمال، بالقرب من معهد القرش الصناعي، وهنالك مركز شباب أم درمان، ومركز شباب الربيع، ومركز شباب بحري، والسجانة، وأعداد مهولة من الدور المعنية بالشأن الثقافي.. ودار د.”راشد دياب”، واتحاد التشكيليين، واتحاد الكُتاب، ودار السجانة العريقة للغناء والموسيقى.. والذي يجمع كل تلك الدور الوعاء الثقافي، وتعجّ بمئات المبدعين، لكن السؤال الجوهري والمهمّ: لماذا هذا التجزّر؟ وهل في الإمكان لمّ كل هذا الشتات في كيان واحد؟ أم نحن أهل السودان بطبعنا نميل إلى هذا التحزّب والشتات؟! ولماذا أجهضنا فكرة الدار القومية للمبدعين؟! وهل في الإمكان بعثها من جديد لتضم تحت سقف واحد كل قبيلة الإبداع؟! ولماذا قعد صندوق دعم المبدعين عن أداء دوره؟! أعلم أنه صندوق فقير منذ أن كان على إدارته صديقنا الشاعر اللواء “الخير عبد الجليل المشرف”، والآن يديره العميد “صديق الكرور”، وحال الصندوق لا يسرّ، ولا يستطيع تقديم أي مساعدة لأي مبدع.. هل نلغيه أم نعيد النظر في علله ليصبح صندوقاً لدعم المبدعين حقيقياً؟
وكما أسلفت القول: المبدع يعطي وطنه ثمرات موهبته وإبداعه، ولا يأخذ إلاّ الفتات، ولا يجد مقابلاً مادياً يتناسب مع عطائه، علماً بأن الموظف العام يتقاضى مرتباً شهرياً ومعاشاً عند التقاعد، في حين أن عدداً محدوداً جداً من المبدعين يتقاضون معاشات، لا بسبب إبداعهم بل لأنهم كانوا موظفين في مرافق الدولة، وهذا أمر نضعه أمام الدولة لتمنحهم معاشاً شهرياً، ويبقى على المبدعين أن يجهدوا أنفسهم لمعرفة من هو المبدع الحقيقيّ الذي تخصص له الدولة معاشاً، أو سكناً أو تكلفة علاج.. وكنت قد اقترحت أن تمنح الدولة قرضاً حسناً لصندوق دعم المبدعين على أن تضع الدولة – بواسطة بيت خبرة اقتصادي – وسيلة لتوظيف القرض في مشروع استثماري، وأن تخصص أرباح الصندوق لأغراض واحتياجات المبدعين، بدلاً من الإبقاء على صندوق المبدعين بلا فائدة منه، ولا يستطيع دفع فاتورة حقن ملاريا.
والغريب أن للدولة قوانين سنتها لإحقاق حق المبدع، ورفع الضيم عنه، وهنالك محكمة مختصة، فمثلاً بعض الإذاعات المرئية والمسموعة تعتدي كل يوم على الحقوق المادية والأدبية، فتبث وتعيد بث أغنيات المبدعين، وترتكب المخالفات يومياً على الشعراء والمغنين والملحنين والموسيقيين، والمبدعون أو ورثتهم لا يملكون قيمة رسوم المحاكم، أو أتعاب المحامين، وأنا نفسي كشاعر غنائي تغمطني أكثر الإذاعات المرئية والمسموعة حقي المادّي والأدبي، وحتى التسويات المادية الزهيدة التي تدفعها تلك المؤسسات، تدفع بإرادة منفردة، وكان من المفترض أن يتمّ توفيق أوضاع أجهزة بثّ المصنفات الأدبية مع أصحاب الحقوق، كما يحدث في كل بلدان الدنيا..
رحم الله كل المبدعين الذين رحلوا عن دنيانا فقراء، وهنا تحضرني قصة محزنة وطريفة، حينما ذهبت قبل سنوات في معية أستاذي المرحوم الشاعر العظيم “محمد بشير عتيق” الذي ملأ السودان غناءً جميلاً، وترك ملايين من أبيات الشعر الشفيق، ولم يترك منزلاً لورثته.. ذهبنا لمدير الإذاعة، وكان وقتها المرحوم أستاذنا “محمود أبو العزائم” الذي رحّب بنا ترحيباً حارّاً، وسألنا عن حاجة يقضيها لنا، قلنا له: أن يزيد قمية المكافأة المالية المخصصة لكلمات الأغنية، وكانت فقط كذا وعشرين جنيهاً (عطية مزيّن) حدّدتها الهيئة القومية للإذاعة، بإرادة منفردة، وفي جميع إذاعات الدنيا الأمر يخضع للتعاقد بين الإذاعة والشاعر.. تخيلوا، (أرجوك يا نسيم روح ليهو) قيمتها كم وعشرين جنيه! وفي كل الدنيا ثمرات الإبداع أغلى ولا تقدر بثمن! قال لنا المرحوم “أبو العزائم”: يا “عتيق” انت زي النيل! موية النيل بي قروش؟ رد “عتيق”: الكلام ده.. ما بيأكّل عيش! يعني أمشي السوق ويدوني الرغيف بدون قروش؟ ردّ “أبو العزائم”: شفت الناس الشيعوا “عبد الحليم حافظ”؟ ملايين المشيعين! رد “عتيق”.. رفع راسو شافهم؟!
المهم شربنا الشاي وضحكنا ومات “عتيق” يرحمه الله فقيراً، وحتى الآن ظلّت المعادلة مختلّة: مبدعون يعيشون الفاقة والفقر ولم يجلسوا كقبيلة ليناقشوا أمورهم، وعشرات منهم في شيخوخة المجد والشهرة من المغنين المحترفين تنتظرهم شيخوخة محفوفة بمصير مؤلم يعيشه من سبقوهم في النجومية والمجد والعز.
فيا جماعة الإبداع.. أقترح أن نعقد مؤتمراً جامعاً يجلس معنا فيه ولاة الأمر، لنناقش حال المبدعين، ولنخرج بحلول وتوصيات نضع فيها التوصيات التي تضع أسساً ومنهجاً وقوانين تكفل للمبدع السوداني العيش الكريم.. عندها ستبدع الأجيال القادمة، فهنالك ما يحفزّها على الخلق والإبداع، وتؤتي الثقافة أكلها، شعراً ورواية وقصة وتشكيلاً وموسيقى وغناءً وفنوناً وموروثات شعبية، فالشعوب ترتقي بفنونها، وبالفنون تتّحد الأمة، وتتأكد قيم الخير والجمال، وقيمة الوطن والعمل، ووحدة الوجدان والصف.