مأساة أبو دكة
إنها مأساة بعيدة عن بصر المركز والإعلام الرسمي والخاص.. لا يذكرها وزير ولا يبصرها مدير (ولا توقظ) ضميراً، وأكثر من أربعمائة نسمة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ينتظرون (حكومتهم) ولا يتوسلون لمنظمات الغوث الأجنبية، والتي إن وجدت فإنها -أي المنظمات الدولية- تمارس التمييز ما بين إنسان وآخر.. تفترض المنظمات أن المجموعات العربية تجد الدعم والمساندة من الحكومة، والحكومة لا تنظر إلا أسفل قدميها.. وتتقاصر خدمات الزكاة عن طالبيها من المنكوبين مثل قرية (أبو دكة) الواقعة في أقصى شمال جنوب كردفان، والتي تعيش مأساة تجسد مأزق الوطن برمته.
في الأسبوع الماضي اندلعت النيران بسبب رياح فصل الصيف التي تنشط في مارس وأبريل.. وأخذت النساء في الصراخ طلباً للنجدة والعون، ولكن ماذا يفعل المرء إزاء عاصفة مرعبة.. ونيران تصاعد لهبها.. يلتهم قطية بعد الأخرى، والأغنام في الأصفاد والدوابّ من الحمير والخيل في أوتادها.. تصرخ والنيران تمتدّ ألسنتها، ومحصولات الأهالي من الذرة والفول والكركديه والصمغ العربي لقمة تلتهمها النيران، والقرية بأكملها أضحت كتلة من اللهب.. النساء اللاتي يحتضنّ أطفالاً حديثي الولادة هرعن بعيداً عن محاضنهن، والرجال يحملون كبار السن من العجزة، لإنقاذ أرواحهم، حتى قضت النيران على جميع منازل القرية البالغ عددها (400) قطية لنحو مائة أسرة.. تركتهم الفاجعة المرعبة في العراء.. والمعتمد “محيي الدين التوم” يهرع لمواساة سكان (أبو دكة) والمعتمد لا خيل عنده يهديها، ولا مال، وفي اليوم الثاني يصل نائب الوالي الجنرال “أحمد خميس” ويداه خاويتان من خيام لإيواء المتضرّرين، ولا ذرة ولا طعام، والقرية لا تشكي الجوع، ولا تسأل الناس، لاعتقادها بأن الشكوى من نقص القوت (فضيحة) تموت الكنانية جوعاً، ولا تسأل عن الطعام، تلك هي قيم الأهل من كنانة.. أعرق القبائل العربية وأصدقها وصلاً بشجرة النبوّة وفق الثابت في التاريخ، ولكنها الأكثر عرضة (للتهميش) بلغة الحركة الشعبية وأدبياتها القديمة.. وقد فجعت ذات القبيلة في أحداث حجير الدوم حينما حصدت بنادق التمرد شبابها ورجالها ونساءها في مأساة لوجدت حظها من الإعلام لاعتبرت من جرائم الحرب التي ينبغي أن تطال قادة التمرد وقطاع الشمال. ولكن مأساة قرية (أبو دكة) تنتظر من (منظمات الشو) والواجهات الدعائية موقفاً إنسانياً يجعلها تطمئن لقومية تلك المنظمات وإنسانيتها، وأنها ليست مجرد مساحيق تضاف لوجوه القائمين على أمرها، و(أبو دكة) القرية المحزونة هي من أنجبت واحداً من علماء السودان الأفذاذ، البروفيسور “إبراهيم نورين” مدير جامعة القرآن الكريم، والذي ظلّ قريباً من مجتمعه حتى منزله الكبير في القرية التهمته النيران، لأن أمثال “إبراهيم نورين” لا تبدلهم سنوات الاغتراب، ولا تأخذهم أضواء وسحر المدينة، ولكنهم يتمسكون (بالجذور) ولا يحول بينهم وأهلهم حائل.. وقد هرع إلى (أبو دكة)، ولكن متى تهرع منظمة سند ومنظمة الشهيد الزبير ومنظمة مجذوب الخليفة، منظمات أخرى بعدد الحصى، ومتى تسأل “مشاعر الدولب” وابن المنطقة “إبراهيم آدم” عن الذين يفترشون الأرض، ومتى يقرأ د.” سليمان عبد الرحيم” عن أبو دكة – كنانة ويتذكر أيامه في كردفان.