دكتورة رجاء حسن خليفة تكتب في أربعينية الإمام :
شواهد و مواقف إنسانية للإمام الصادق المهدي
أربعون يوما أو تزيد مضت على الرحيل المر للإمام الصادق المهدي الذي ترك فراغا عريضا في الساحة السياسية والاجتماعية، فضلاً عن الفراغ الوجداني والنفسي الذي تركه على الصعيد الخاص والأسرى، وفي ذكرى اربعينية رحيله نجدد الدعاء ونرفع الأكف له بالرحمة والمغفرة والقبول والخلود في الجنان وأن يجعل معاناته مع المرض في خواتيم أيامه كفارة له، وأن يكتب له أجر الشهداء ويربط على قلوب جميع أفراد أسرته في الرحم والإنسانية ويلهم أحبابه الكثر الصبر وحسن العزاء. وصدق الله العظيم القائل (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). و(كل نفس ذائقة الموت).
تربطني علاقات متعددة الجوانب بشخصية الإمام الصادق، ربما كانت أولاها هي علاقة المكان والجغرافيا والتاريخ، في إشارة لمدينتي(ام درمان) أو( بقعة المهدي) كما كنا نسمع الأهل يرددونها، والتاريخ يذكرني بجدي لأمي والذي أسماها(مهدية) تأكيداً لانصاريته وهو القادم من أطراف كردفان مهاجراً لنصرة دعوة المهدية، ومن الغرائب أنه ورغم نشأة والدتي في ابي روف وعلى مقربة وعلاقة بآل المهدي ولكنها اتجهت صوب الأزهري واتخذت من الميول الاتحادية خياراً لها ووالدي القادم من نهر النيل كان كذلك على ذات التوجه، كانت تلك إشارة بعدم وجود علاقة انتماء تربطني بالإمام وبحزب الأمة، فمن التوجه الاتحادي لوالدي وانصارية جدي اتخذت أنا الحركة الإسلامية ومنذ المرحلة الجامعية لي منهجاً والتزاما، ولكني ظللت دوما_ وخاصة في حقبة الإنقاذ التي زاد فيها حراكي في العمل السياسي _ أكن احتراماً وتقديراً خاصا للإمام الصادق ولي معه وقفات ومحطات زادت من هذا التقدير والاحترام.
وساركز على محطات مهمة في علاقتي بشخصية الإمام الراحل المقيم رحمه الله، كان أولها في العام ٢٠٠٢ بمدينة القاهرة التي جئتها تلبية لدعوة للمشاركة في المؤتمر التأسيسي لمؤتمر الفكر العربي بمبادرة ورعاية سمو الأمير خالد الفيصل وعبر صديقتي النائب بهية الحريري والتي جمعني بها الاتحاد البرلماني العربي وكانت ساعتها رئيسة لجنة المرأة، وحضرت للمؤتمر ولكنني لم أوفق في معرفة من قدمت له الدعوة من السودان ، وفي صبيحة افتتاح المؤتمر وخلال أعمال الجلسة الافتتاحية فوجئت بوجود الإمام الصادق في الصفوف الأمامية وليس بعيداً عن مقعدي ضمن مقدمي الأوراق، فذهبت للفور لتحيته فوقف رداً للتحية بكل المودة والحميمية التي يتمتع بها رحمه الله وعرفته بنفسي وكنت حينها أمينة عامة للاتحاد العام للمرأة السودانية وعضوا بالبرلمان فتبسم وقال أعرفك تماماً وسعيد بمشاركتك وسأكون حضوراً في جلستكم(مساهمة المرأة العربية في الفكر العربي) وشكرته، ولا أنسى طيلة أيام المؤتمر اهتمامه بي وحرصه اليومي على تفقدي كاب وأخ كبير والإطمئنان علي خاصة عندما علم أنني أشارك لوحدي من السودان وبالفعل حرص على المشاركة في الجلسة التي قدمت فيها ورقتي وتداخل بمداخلة قيمة وبادلته وفاء بوفاء فحرصت على الجلوس في المقدمة وحضور الجلسة التي قدم فيها مساهمته ومنذ ذلك التاريخ زاد التواصل معه ومع أسرته، خاصة رفيقة دربه الراحلة المقيمة سارة الفاضل والتي التقيتها عن قرب بعد عام من رحلة القاهرة في سفرية ترافقنا فيها عبر جلوسنا في مقاعد متجاورة على متن الخطوط القطرية صوب الدوحة و دار بيننا حوار هادئ ونقد موضوعي من جانبها لبعض قضايا الشأن السوداني واتفقنا على للتواصل لتعزيز المشترك خاصة قضايا المرأة ووعدت خيرا وقد كان، وتبادلنا الهواتف وعقب عودتنا للسودان تواصلنا وتوثقت الصلة معها ووجدت فيها شخصية سودانية أصيلة ونبيلة وذات رؤية عميقة ونظرة ثاقبة ومع الأيام صرت أزورها في منزلها وأتشاور معها في بعض هموم المرأة ووجدت منها آذان صاغية وسعدت بتلبيتها لدعوتنا في اتحاد المرأة لإحياء اليوم الوطني للمرأة السودانية ٣١يناير٢٠٠٣ (تاريخ تأسيس الاتحاد النسائي١٩٥٢ واتحاد المراة1990) في مدينة زالنجي بوسط دارفور وكان ذلك في العام ٢٠٠٣ وقبل اتساع الحرب في دارفور ولبت دعوتنا رغم مشقة السفر من نيالا لزالنجي براً وكانت ضمن وفد ضم عدداً من الشخصيات القومية وقد كان لرمزية مشاركتها إثر كبير في إعطاء نكهة خاصة للاحتفال الذي شرفه بالحضور الرئيس السابق المشير البشير وقلد فيه عدداً من القيادات أوسمة الامتياز، ولهذا خصص اتحاد المرأة( ليلة تبلديات الوطن) لتخليد بعض الرموز النسائية المعاصرة في العام ٢٠٠٩ تقريباً ومنها سارة الفاضل وبعد وفاتها بفترة قصيرة وتم تخصيص جزء من الليلة لإلقاء الضوء عن جوانب من شخصية الراحلة رحمها الله والتي فجعت لرحيلها وكأني واحدة من الأسرة وما زالت علاقتي بكريماتها موصولة.
وحرصاً منا على مشاركة الإمام الصادق وكريماته لشهود الليلة فقدذهبنا في وفد رفيع لتقديم الدعوة له ورحب بنا وتحاور معنا حول تفاصيل ومحتوى الليلة ووافق على الحضور وكان ضيف شرف الليلة و التي مثل رئاسة الجمهورية فيها رسمياً الأستاذ علي عثمان نائب رئيس الجمهورية الأسبق ضمن فعاليات الاحتفال بأعياد استقلال السودان وعلى مسرح قاعة الصداقة جلس الإمام الصادق والمنصورة د. مريم والأستاذة رباح وعدد من أفراد الأسرة وحضور رفيع من رموز المجتمع وبقلم وبصوت الشاعرة روضة الحاج واخراج عبدالعظيم قمش انطلقت فعاليات ليلة( تبلديات الوطن) وأجادت الراحلة سوسن دفع الله تمثيل شخصية سارة الفاضل وتناولنا جوانب من حياتها وبصماتها في الساحة السياسية وفي حياة الإمام ولم نتمالك أنفسنا جميعاً والامام ضمننا ونحن نغالب الدمع السخي في رحاب ذكراها رحمها الله رحمة واسعة.
وأضفت مشاركته الأنيقة وأسرته الكريمة بريقا إضافيا لليلة. وتعمقت مع الأيام صلتي به، وفي خواتيم دورتي في الاتحاد تصدينا للحملة التي قادتها المحليات ضد بائعات الشاي وبعد قرار والي الخرطوم د. مجذوب الخليفة رحمه الله بمنع عمل النساء في بعض المهن والذي قدنا حملة قانونية كبيرة ضده وصلت المحكمة الدستورية عبر محامي الاتحاد المتطوع الأستاذ الدكتور إسماعيل الحاج موسى الذي صمد معنا حتى أبطلت المحكمة قرار الوالي بحمد الله.
وفي تلك الأجواء ضمنا في داره العامرة وعبر طيبة برس منتدى الأربعاء حول قضية بائعات الشاي وكنت ضمن المشاركين وسعدت بوجودي في داره رغم تباين وجهات النظر في تناول بعض الجوانب للقضية ولكن كان الاحترام والتقدير دوما هو رابطنا مع الإمام، وكثيراً ما تأتي إلينا وفود نسائية خارجية تطلب زيارته فكان دوما مرحبا ومحاورا ومكرما لضيوفنا.
ومن المحطات المهمة بل الأهم التي جمعتني به هو بحثي لنيل درجة الدكتوراه وكنت قد اخترته ضمن ثمانية شخصيات أجريت معهم المقابلة حول(الحركة النسائية المعاصرة ودورها التربوي _الاتحاد العام للمرأة السودانية أنموذجا) وكان هو الرجل الوحيد بين الشخصيات المختارة وسألني المشرف عن دواعي اختياري له فذكرت له الدور الريادي الذي قامت والدته رحمة عبدالله جادالله في تشكيل العمل النسوي المنظم ضمن تيار الحركة النسائية وبما أنها قد توفاها الله فهو الأقدر على الأفادة حول الموضوع لاهتمامه الشخصي ولارتباطه الوثيق بها واعتزازه لما قامت به وأعتقد أن الإفادات التي أدلى بها الإمام الصادق المهدي كانت من الأهمية بمكان خاصة حول الدور الذي قامت جمعية النهضة التي أسستها والدته رحمة جادالله في تشكيل خارطة البدايات للعمل النسوي المنظم، وكان جوهر الأسئلة عن الدور التربوي الذي قامت به الحركة النسائية عموماً واتحاد المرأة بصورة أخص وما أسهمت به جمعيات آل المهدي من أدوار في مسيرة الحركة النسائية وبداياتها، والتقيته في ١٥ يوليو/٢٠١٢ بمنزله بالملازمين، كما هو مثبت في الرسالة والتي طبعت لاحقا في كتاب منشور وجاءت إفاداته وشهاداته وافية وموضوعية وصريحة وأثبت في ملخص المقابلة ما ذكره لي من نقد للاتحاد باعتباره نشأ في ظل نظام شمولي_حسب وصفه_ ورغم اعترافه بما يقوم به من أدوار وأعمال كبيرة ولكنه ذكر أن السودان يحتاج لمجلس قومي طوعي يشمل كل التيارات، واعترف لي بقيام الاتحاد بأدوار تربوية خلال مسيرته، وسألته سؤالاً قد يبدو محرجا ولكنه أجابني بموضوعية اقنعتني، ذكرت له أن عددا من المهتمين بأمر تطور ومسيرة العمل النسوي يعتبر أن جمعية النهضة التي اسستها رحمة جاد الله وغيرها من الجمعيات التي نشطت فيها نساء آل المهدي مجرد رد فعل لقيام الاتحاد النسائي ومجرد عمل ديكوري ولم تكن لنساء المهدي ذات الفاعلية التي تمتعت بها مؤسسات الحركة النسائية آنذاك يمينها ويسارها؟
فتبسم رحمه الله وقال نعم لم يكن بذات الفاعلية ولم يكن متوقع منهن ذلك ولكن خروجهن الحذر وتواضع النشاط كانت له قيمة عالية في ذلك التاريخ فقد أعطى مشروعية ومقبولية للعمل النسوي الطوعي في مجتمع كان لا يعترف كثيراً بشراكة النساء مع الرجال في الهم العام. وفعلا كانت هذه التفاتة من الأهمية بمكان، وعموما ما أدلى به الإمام الصادق من إفادات تحتاج مقالاً وتناولاً خاصا ويمكن للمهتمين الرجوع لتفاصيلها في ثنايا كتاب(الحركة النسائية المعاصرة ودورها التربوي).
كانت تلك محطات ووقفات في مسيرة علاقتي به رحمه الله وأشكر في هذا المقام الأستاذ محمد زكي الذي كان له دور كبير في تنسيق كل المقابلات والربط بينه وبين الراغبين في الحوار معه وتوجيه الدعوات له للمشاركة في أنشطة متعددة وحقا كان الإمام الصادق رحمه الله يتمتع بقدر عال من الروح السودانية السمحة الودودة والروح الرياضية التي تجعله يتقبل النقد ويقدمه لغيره بكل أدب جم ، الا رحم الله الإمام الحبيب الصادق المهدي وتقبله واحسن إليه وجبر كسر أهل السودان والانصار وأسرته في فقده. ووفق الله خلفه في مواصلة مشواره فالبلاد تمر بمخاض تحتاج فيه للسياسيين الوطنيين الذين يساهمون في بناء المجتمع بالحكمة والموضوعية والرؤية الثاقبة.