أهلاً د. "مرسي"
{ أن تأتي متأخراً خير من الغياب.. وبين القاهرة والخرطوم كثير من لغة الإنشاء والمجاملات والملاطفة والحبّ الزائف على الأقل من طرف السودان. وحينما كانت مصر ترزح تحت حكم الطغاة من العلمانيين الأمريكيين حتى فقدت بريقها الإسلامي يجد أهل السودان لمصر العذر ويلتمسون لها أسباب القطيعة المفتعلة، حتى قال الشعب المصري كلمته واختار التيار الإسلامي لينوب عنه في الحكم. واعتلى “مرسي” سدة الحكم!
{ مصر وسلطتها الجديدة لم (يتركوا) لها حتى سانحة التقاط الأنفاس، حاصروا السلطة بآليات الدولة العلمانية العميقة. قضاة يرتدون بزة العدل ويخفون تحتها توجّهات علمانية، وخدمة مدنية نخر في جسدها الفساد، ومؤسسة عسكرية تتربص بالديمقراطية، وتتعرّض يومياً للتحريض والإغراء بأن تقضي على الحكم في رابعة النهار الأغرّ. فأصبحت مصر منكفئة على نفسها تعالج أسباب أزمات الداخب. وغاب دورها الإقليمي والدولي، وهو دور أخذ في التلاشي والضمور منذ أن نفذت مصر المشروع الإسرائيلي في المنطقة من خلال اتفاقية (كامب ديفيد)، وما عرف بسلام الشجعان، وما هو إلا استسلام وذل وانكسار تحت أحذية (المارينز).
{ مصر والسودان حالة من العاطفة والإنشاء واللغة الجميلة والمضامين الخاوية والشعارات التي لم ينهض على إثرها مشروع زراعي أو صناعي، وأقوال عن علاقات أزلية وما هي إلا علاقات (قشرية)، لم يتذوق الشعب هنا ولا هناك طعم ذلك الأزل المزعوم. انفصل جنوب السودان ومصر لم تذرف دمعاً عليه، وكأن الثوابت المصرية القديمة قد تلاشت للعدم، تعرض السودان لعدوان ثلاثي من جيرانه، ومصر كانت أقرب لمساندة ومناصرة ومؤازرة الجاني على الضحية!! وذهب “مبارك” وطغمته فابتسمت الخرطوم، ورقصت وطربت لرحيل “مبارك”، ولكن الدولة (العميقة) هناك تكيد للخرطوم من وراء “مرسي” أو من تحته (ربكم أعلم) بما يحدث في مصر، معارضة مسلحة تتغذّى من مال المخابرات المصرية، وتنشط حركة العدل الدارفورية، وحركة تحرير السودان وقطاع الشمال يتخذ القاهرة ملاذاً له كل مجرم مطلوب للعدالة في الخرطوم، وكل متأبط شراً بحكومة الخرطوم، والتصريحات والأقوال باللهجة المصرية التي حفظها الشعب السوداني من الأزل.. هي ذات الأقوال والحروف ومخارجها.. وخيبات الأمل تتضاعف، ويسود الإحباط مكان التفاؤل.. ولا جديد حتى اليوم في العلاقة بين الدولتين، رغم غروب شمس “مبارك” وبزوغ عهد ديمقراطي في مصر الحرة!!
{ السودان لا يسأل مصر شحنة قمح، ومصر تأكل من البراري الكندية، ولا ينتظر منها شحنات نفط والبترول السوداني في غضون عامين (سيؤهل) الخرطوم للانضمام لنادي الدول النفطية، والسودان لا يستورد من مصر إلا البسكويت والحلويات والأواني المنزلية، وقليلاً من الملبوسات، ولكنه يقرأ لكل كتـّاب مصر، ويشاهد الدراما، ويموت في حب “ليلى علوي” و”شيرين”، ويهيم في تجلّيات الإمام البنا، ويعتبر كثير من السودانيين “سيد قطب” قدوتهم وأستاذهم ومعلمهم، والسودان يستقبل سعادة الدكتور “مرسي”، ويفتح ذراعيه للخبرة المصرية لزراعة الشمالية بالقمح والجزيرة بالقطن، حتى تأكل مصر من عرق جبين الفلاح المصري، ولا تسال أمريكا القمح والعدس والفول والبصل. والشعب هنا يستشفي في الأردنّ بدلاً من القاهرة لأسباب القطيعة الماضية، ولكن اليوم، بوجود الرئيس “مرسي” في الخرطوم، ستنطوي صفحة الأمس بكل ما بها.. وتخرج الخرطوم الثائرة لاستقبال أول قيادة إسلامية وصلت للسلطة في مصر الكنانة عبر صناديق الانتخابات وإرادة الشعب المصري الحرّ.
الخرطوم اليوم تستقبل رجلاً استثنائياً في دولة شديدة الخصوصية أقرب للسودان من حبل الوريد.