بحصافة – يوم الاثنين 2020/12/7
بحصافة
دفع الله الحاج يُوسُف يترجل من صهوة الدنيا ويرقى إلى رحاب الله
إمام مُحَمَّد إمام
i.imam@outlook.com
تُوفي إلى رحمة الله تعالى، مولانا دفع الله الحاج يُوسُف رئيس القضاء الأسبق ووزير التربية والتعليم العالي الأسبق ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الدينية والأوقاف الأسبق، والمحامي الضليع ورئيس لجنة تقصي الحقائق في مشكلة دارفور، يوم الأحد 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. وذلكم تصديقاً لقول الله تعالى: “ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰاتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ”.
وكان الأستاذ الراحل دفع الله الحاج يُوسُف، قد تعرض لوعكة صحية ألزمته الفراش الأبيض في مستشفى علياء التخصصي. وُوري الثرى في مقابر أحمد شرفي، حيثُ هرع إلى تشييعيه نَفَرٌ كريمٌ، رغم سماعهم بموعد التشييع متأخراً، لكنهم حرصوا أيمّ حِرصٍ على إنزال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقوق المسلم على المسلم، في تشييعيه، ومن بين هذه الحقوق “.. وإن مات فشيعه”.
وصدق الشاعر العربي كعب بن زهير بن أبي سلمى، حين قال:
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُه
يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
وُلِد الأستاذ الراحل دفع الله الحاج يُوسُف في حي السوق بأم درمان في عام 1934، وتلقى تعليمه الأولي بخلوةٍ في مسجد أم درمان العلمي، ومنها انتقل إلى مدرسة الهداية، ومنها إلى مدرسة حي العرب، ثم مدرسة أم درمان الوسطى، التي سُميت بعد ذلك، بمدرسة أم درمان الأميرية الوسطى، ثم مدرسة خور طقت الثانوية، في بواكير عهدها، حيثُ أُفتتحت رسمياً في 28 يناير (كانون الثاني) 1951، ولكنه فُصل منها لأسباب سياسية! وهو يومذاك كان ضمن العشرين طالباً الذين فُصلوا من مدرسة خور طقت الثانويه، بسبب نشاطٍ طلابيٍ مشهورٍ! فالتحق بمدرسة الأحفاد الثانوية، ومنها إلى كلية الحقوق (القانون) بجامعة الخرطوم التي تخرج فيها عام 1958. وإبان فترة دراسته بجامعة الخرطوم، كان ناشطاً سياسياً، منتظماً في الاتجاه الإسلامي، مشاركاً فاعلاً في النشاط الطلابي السياسي، حيثُ خاض مع مجموعة من رسلائه المعارك السياسية والاجتماعية. وتسنم رئاسة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، في خمسينات القرن الماضي، وكان خطيباً مفوهاً، وقيادياً صلباً، ومفاوضاً شرساً، ومعبراً قوياً عن مواقفه السياسية.
وبعد تخرجه في جامعة الخرطوم عام 1958، عمل في سلك القضاء، ولكن بعد انقلاب 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، طلب منه الأستاذ محمد أحمد المحجوب والأستاذ الرشيد الطاهر بكر تقديم استقالته من القضاء، والانضمام إليهما بمكتب المحاماة. وبالفعل قدم استقالته، وقبلها مولانا محمد أحمد أبو رنات رئيس القضاء آنذاك. ومن ثم عمل بالمحاماة في مكتب الأستاذ محمد أحمد المحجوب للمحاماة، ثم أصبح شريكاً له، وعملا معاً تحت اسم مشترك (محجوب ودفع الله المحاميان)، ووقتها كان مكتب الأستاذ محمد أحمد المحجوب، ليس مكتباً للمحاماة فحسب، بل كان ملتقىً لأهل الفكر والسياسة من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، مما مكنّه من خلق علائق وطيدة ومعرفة وثيقة بالعديد من السياسيين والمثقفين في ذلكم الزمان.
ومن المحاماة، ولج عالم الأعمال والاقتصاد، حيث ترأس العديد من المؤسسات الاقتصادية والتعليمية، من بينها إدارة مصنع النسيج السوداني لرجل الأعمال السوداني الشهير الدكتور خليل عثمان، وإدارة مصانع الحلويات في كانو (شمال نيجيريا) لرجل الأعمال السوداني المعروف الشيخ الدكتور إبراهيم الطيب الريح، وكذلك رئيس مجلس أمناء جامعة السودان العالمية التي شارك في تأسيسها مع صديقه الحميم السيد أحمد عبد الرحمن محمد. وفِي العهد المايوي برئاسة ابن حييه ودنوباوي بأُم درمان، الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، تسنم حقيبتين وزاريتين ورئاسة القضاء. فقد عمل الأستاذ دفع الله الحاج يُوسُف وزيراً للتربية والتعليم العالي، ورئيساً للمجلس الأعلى للشؤون الدينية والأوقاف (وزارة)، وعُين رئيساً للقضاء في الثامن من مارس (آذار) 1983، وهو أول رئيس للهيئة القضائية بعد توحيدها، بدمج القسم المدني مع الشرعي. وفي عهده كانت بداية تطبيق القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية. وقد أصدر عدة منشورات جنائية تحمل فقهاً عظيماً. وعلى الرغم من ذلكم، أُعفيّ من منصبه في الثلاثين من سبتمبر (أيلول) 1984.
في رأييّ الخاص، أن رئاسته للجنة الوطنية لتقصي الحقائق في دارفور التي شكلت بأمر رئاسي، في عام 2004، لو تم إنفاذ توصياتها ومقترحاتها، لكن الأمر جد مختلف الآن، لأنه بذل مع صحبه أعضاء اللجنة، جُهداً عظيماً، وعملاً كثيفاً، للوصول إلى ما توصلوا إليه، من توصياتٍ ومقترحاتٍ. وكانت اللجنة عقدت 65 اجتماعاً، واستمعت إلى 288 شخصاً، وزارت ولايات دارفور الثلاث آنئذٍ عدة مراتٍ! فذهبت إلى 30 منطقة من مناطق دارفور، للوقوف على مسارح الأحداث، واجتمعت بالسلطات المحلية والولائية، والإدارات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات العاملة في مجال الإغاثة المحلية والأجنبية، كما زارت معسكرات النازحين! وخلُصتْ إلى التوصية بتكوين لجان تحقيق قضائية في بعض الجرائم التي تدخل في نطاق الجرائم ضد الإنسانية. كما أوصت بتقديم من تثبت ضدهم تهمة مبدئية للمحاكمة، وأوصت أيضاً بالتحقيق القضائي في استيلاء بعض المجموعات على بعض القرى التي تخص المجموعات الأخرى! ودعتْ إلى ضرورة إجراء تحقيقٍ قضائيٍ، فيما تم من قبل المتمردين في مناطق برام ومليط وكلبس، من قتل للجرحى في المستشفيات! وحرق بعض الأحياء! كما أوصت اللجنة بتشكيل لجنة تحقيقٍ قضائيٍ لحصر الخسائر في الممتلكات، وتشكيل لجنة لترتيب المسارات، وفق الزيادة في الثروة الحيوانية، ووفقاً لازدياد الرقعة الزراعية، وسلمت اللجنة تقريرها الختامي للسيد رئيس الجمهورية في يناير (كانون الثاني) 2005، ومن ثم أعقبها تقرير اللجنة الدولية. وحدث ما حدث! من ضحايا وتشريدٍ للمواطنين، ومحكمة جنائية دولية تُطارد رأس الدولة أينما حلّ!
على المستوى الشخصي، عرفتُ الأستاذ الراحل دفع الله الحاج يُوسُف منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، في العهد الطالبي بجامعة الخرطوم، من خلال عملي في الوسائط الصحافية والإعلامية، وتوثقت علائقي به، عندما تسنم رئاسة القضاء، وكانت السلطة القضائية جزءاً من دائرة اختصاصي، إبان عملي في صحيفة “الصحافة”. فكنتُ أحضر محاضراتي في كلية الآداب بجامعة الخرطوم بانتظامٍ مشهودٍ، وأغشى بعد انتهائها، ثلاث جهاتٍ قبل حضوري إلى دار “الصحافة”، مُزوداً بمحصلةٍ من الأخبار والتحقيقات والحوارات، وهذه الجهات الثلاث، هي وزارة الشؤون الداخلية في عهد عمنا الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد وزيرها – نسأ الله في عُمره، وأدام عليه نعمة الصحة والعافية -، ورئاسة القضائية إبان رئيسها مولانا دفع الله الحاج يُوسُف – يرحمه الله رحمةً واسعةً، وأختم جولاتي بديوان النائب، حيثُ الشيخ الدكتور حسن عبد الله دفع الله الترابي – تنزلت عليه شآبيب رحمات الله الواسعات –. فكان الأخ الصديق بابكر عراقي رئيس قسم التحقيقات آنئذٍ، وكِلانا من كسلا، فهو من الختمية، وأنا من الترعة، يُقدر ظروفي الدراسية، فيطلبُ مني مده بالمواد، دون التدقيق في الحضور والغياب، وهناك تقديرٌ خاصٌ لي ولجامعة الخرطوم، من أستاذي الراحل فضل الله محمد – يرحمه الله -، فأجد منه الدعم غير المحدود. أحسبُ أن هذه عوامل ساعدتني كثيراً في المزاوجة بين الدراسة والصحافة.
وكنتُ أحرص على لقاء مولانا دفع الله الحاج يُوسُف، عند زياراته إلى لندن، إبان عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، وأجريتُ معه عدد من الحوارات الصحافية. كما كنتُ أحرص على زيارته في منزله بحي ودنوباوي بأُم درمان خلال زياراتي إلى السودان. وكنتُ أَجِد منه حسن الاستقبال، وكريم الضيافة، وجميل الكلم، وعذب النظم.
أخلصُ إلى أنني انتظمتُ بعد أوبتي إلى السودان، في إفطاره صباح كل جمعة، إلى حينٍ، حيثُ يلتقي في بيته العامر، ثُلةٌ من الأخيار، من أهل السياسة والثقافة، ويجتمعُ إليه جمعٌ واسعٌ من أطيافٍ متباينةٍ، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، تدور مناقشاتهم في هدوءٍ وعُمقٍ، قلما تجده في صوالين الخرطوم، فقاعدتهم ارتفاع الصوت لا يدل على المقدرة في الإقناع! وهو يوزع مجلسه مع هؤلاء فترةٍ، ومع أولئك حيناً، ويشرف بنفسه على إفطار الجميع، إطعاماً وفاكهةً وشراباً حللاً طيباً. كان الأستاذ الراحل دفع الله الحاج يُوسُف طيباً خلوقاً، متواضعاً رقيقاً، ومحدثاً لبقاً، كنا نحرص على سماعه، أكثر من اسماعه، فالمعلومة عنده منسابة في يُسرٍ، والتاريخ لديه حاضرٌ في غير عُسرٍ، فهو ذو ذاكرةٍ حافظةٍ، وقلبٍ واعٍ، ولسانٍ ذاكرٍ، وكريماً جواداً، يودعك مذكراً بلقاء الجمعة المقبلة. يُعتبر فقيدنا، موسوعة في القانون والقضاء، ومن الرموز الاجتماعية البارزة في مدينة أم درمان والسودان.
وجميلٌ، أن يصفه صديقه الحميم، البروفسور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء الأسبق في رثائه له، أنه “كان يحملُ رؤىً سياسيةٍ وإجتماعيةٍ محددةٍ، ولكنه لم يجعل منها حواجزاً، تفصل بينه وبين النَّاسِ، بل جعلها جسوراً للتعارف والتعاون”.
ألا رحم الله تعالى، مولانا دفع الله الحاج يُوسُف، وأنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، وتغمده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وتقبله قبولاً طيباً حسناً، وألهم آله وذويه وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه وعارفي فضله وعلمه، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول صاحب المعرة، أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سُليمان القضاعي التنوخي المعري، في رثاء والده، وكثيراً ما كان فقيدنا يستشهد به:
أبــي حَــكَـمَـتْ فـيـهِ اللّيـالي ولم تَـزَل
رِمـاحُ المَـنـايـا قـادِراتٍ عـلى الطّـعـنِ
مـضَـى طـاهـر الجـثـمان والنّفس والكرَى
وسُهـدِ المـنـى والجَـيبِ والذيلِ والرُّدن
فــيــا لَيــتَ شِــعــري هــل يَــخِـفّ وَقـارُهُ
إذا صَـارَ أُحْـدٌ فـي القِـيـامَـةِ كـالعِهْـنِ
وهـــلْ يـــرِدُ الحـــوْضَ الرّويَّ مُـــبــادِراً
مـعَ النّـاسِ أمْ يـأبَـى الزّحامَ فَيَستأني
ولنستذكر أيضاً في هذا الخصوص، قول الله تعالى: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ”.