رأي

عامان مضيا منذ تفجير ثورات الربيع العربي ولم تكتمل بعد!

الأحداث التي اجتاحت المنطقة العربية وسميت بالربيع العربي، وكان من نتيجتها سقوط أنظمة مستبدة، فاسدة وتابعة استمرت في الحكم لعدة عقود وأعقبتها حكومات انتقالية مهمتها وضع الأساس لحكم جديد يقوم على الديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الإنسان، وذلك من خلال وضع دستور جديد وإجراء عملية انتخابية تحقق شرعية السلطة سواء السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية واستكمال عملية الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، عندما كتبت كتابي (الربيع العربي ثورات لم تكتمل بعد، علاقات العرب عبر العصور ومستقبلها بعد ثورات الربيع العربي)، وبناء على النظرية التاريخية استشرفت مستقبلاً أفضل للعرب بعد استكمال عملية الانتقال للوضع الجديد إن هم تمسكوا بالقيم والأخلاق التي تدعو للحرية والثقافة واحترام حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة كما كان أسلافهم من قبل في عصورهم الزاهية، فالنظرية التاريخية هي إحدى نظريات العلاقات الدولية التي منها النظرية المثالية التي تعني كيف يجب أن يتصرف الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وكيف يجب أن تتصرف الدول تجاه بعضها البعض، بصورة مثالية بعيدة عن العنف، واستخدام القوة، ومنها أيضاً النظرية الواقعية أو نظرية البعض بصورة تعني أن العلاقات بين الدول قائمة على المصالح وبالتالي فإن القوة عنصر أساسي في هذه النظرية.
بعض أساتذة العلاقات الدولية انتقدوا النظرية التاريخية التي تقول: التاريخ يعيد نفسه، ومصدر النقد يقوم على أن البيئة والعوامل المستجدة قد لا تتيح للحدث أن يتكرر كما هو. في الحقيقة كنت أعتقد عندما جعلت في عنوان الطبعة الأولى، وكذلك الطبعة الثانية (ثورات لم تكتمل بعد) أن عامين من اندلاع هذه الثورات وقت كافٍ ليمكنني من الانتقال من (لم تكتمل بعد) إلى (معالم ثورات قد اكتمل بناؤها) غير أنني أجد نفسي ما زلت في المحطة الأولى الربيع العربي ثورات لم تكتمل بعد، فمن خلال متابعاتي لتطورات الأوضاع في المجتمع العربي ومشاركاتي في الندوات والملتقيات والمناقشات التي دارت حول كتابي الربيع العربي مازالت النخب العربية منقسمة حول تعريفها وتقييمها لثورات الربيع العربي.
فمنهم من يرى أن الربيع العربي هو مجرد مؤامرة صاغتها أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية “غازي سليمان وآخرون” ويسترسلون في توصيفهم للربيع العربي بأنه ترجمة على الأرض لمقولة الفوضى الخلاقة التي نادت بها “كوندليزا رايس” وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة. ومنهم من أنكر تسميتها بالربيع العربي واختار لها اسماً آخر كالفجر الجديد “السيد الصادق المهدي” والانتفاضات العربية وغير ذلك ومنهم من أبقى على الاسم، وعرفها بأنها ثورات حقيقية تهدم الماضي وتقيم مكانه بنياناً جديداً وهؤلاء يدافعون عن عدم اكتمال بنائها لسنوات أو عقود “مصطفى عثمان إسماعيل”.
علينا أن نعترف وننتبه بأن ما يشهده العالم اليوم ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1989م، ليس عملية ترسيم للنظام القديم بل هو عملية نشوء وبروز نظام عالمي جديد يختلف تماماً عن النظام العالمي القديم، عالم جديد تسوده مفاهيم جديدة في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية ومفهوم سيادة الدولة واستقلالها. يقول المفكر اللبناني “نزار عبد القادر”: (لقد أطلق خبراء علم السياسة على المرحلة التي بدأت عام 1989م، مرحلة ما بعد الحداثة، حيث ظهرت نزعة جديدة لإسقاط مبدأ استقلال وسيادة الدولة الذي توارثه العالم منذ توقيع اتفاقية واستفاليا عام 1648م، لم يكن الهدف من التطور الذي أدى إلى ولادة عالم ما قبل الحداثة بل تمحورت حول فكرة قيام نظام شمولي واسع تحت شعار (العولمة) كان من الطبيعي أن يستولد عالم (ما بعد الحداثة) دولة جديدة تعرف بدولة ( ما بعد الحداثة) وهي تقوم على فكرة التعددية السياسية، وعلى تكريس سيادة القانون، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات، مع التوجه نحو اعتماد (اللامركزية الإدارية) من أجل احترام خصوصيات المجموعات الدينية والأمنية في المجتمعات ومن أجل تحقيق النمو المتوازن والعدالة الاجتماعية بين مختلف المناطق الجغرافية.
أسقط عالم (ما بعد الحداثة) فكرة الدولة القوية والمركزية التي يمارس فيها الحاكم سيطرته المطلقة على مصير وأرواح المواطنين، كما أعلن رفضه المطلق لكل الإجراءات القسرية، التي كانت تطبق تحت عناوين كبيرة وبراقة مثل مصلحة الدول العليا أو تحت شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) وأصبح من الضروري أن يراعي الحكام ما تعكسه وسائل الإعلام من توجهات سياسية واجتماعية واقتصادية لدى مختلف فئات الشعب، مع ضرورة احترام حقوق الأقليات ومراعاة مطالب مجموعات الضغط المطالبة بحقوق القطاعات أو المناطق.
في عالم (ما بعد الحداثة) يجري التركيز بصورة خاصة على إرساء قواعد الديمقراطية وعلى احترام الحريات وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات وحمايتهم وحل النزاعات القائمة في الداخل أو مع دول الحوار.
في عالمنا العربي لم ندرك المتغيرات التي حدثت بعد عام 1989م، لم ندرك المتغيرات التي حدثت في وسائل الاتصال بين الأفراد والشعوب فجعلت العالم كالقرية الصغيرة، وفي ظل هذا التجاهل من قبل الحكام قررت الشعوب العربية أن تكسر حاجز الخوف والرعب وأن تخرج لتلحق بركب عالم (ما بعد الحداثة) فكانت ثورات الربيع العربي ولن تستطيع النخب الحاكمة مهما فعلت من وسائل الإغراء أن تعيد هذه الشعوب إلى (عالم ما بعد الحداثة).
نواصل…
} أستاذ العلاقات الدولية
بجامعة أم درمان الإسلامية

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية