تقارير

مولانا "محمد عثمان الميرغني".. جدل (الصوفية والبراغماتية)

كيف يفكر مولانا “محمد عثمان الميرغني” زعيم الاتحادي الأصل، ومرشد هيئة الختمية؟؟ هل يمارس الرجل المنهج الفردي الأحادي في تطبيق التكاليف العامة، أم يدبر الأمور والأشياء من وحي المشاركة الواسعة في المنظومة الحزبية؟!
لا أحد ينكر أن مولانا ما زال بكامل عطائه السياسي وقواه العقلية والذهنية، غير أن قراءة ملامح تفكيره وطرائق أسلوبه في اتخاذ القرارات صارت قضية مهمة تنعكس على الكثيرين، سيما قواعد الاتحاديين بحكم وزنه في المسرح السوداني كمرجعية سياسية ودينية.
من هذا المنطلق دلفنا إلى بعض القيادات والرموز السياسية التي التصقت بمولانا في المعترك العام، وهم الإمام “الصادق المهدي” رئيس حزب الأمة القومي، الدكتور “حسن الترابي” الأمين العام للمؤتمر الشعبي، الأستاذ “أحمد علي أبو بكر” رئيس المكتب التنفيذي بالاتحادي المسجل والمحامي “فاروق أبو عيسى” رئيس تحالف أحزاب المعارضة.. فماذا قالوا؟؟
{ توجهات مولانا في الميزان
شخصية مولانا “محمد عثمان الميرغني” زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل ومرشد هيئة الختمية، تشكل علامة استثنائية في المسرح السوداني من ناحية الكاريزما والمقام السياسي والديني، علاوة على الوزن المعنوي والوجداني من خلال معطيات دالة على بساط الواقع. فالمعيار الصادق الذي يساعد في رسم مزايا وخصائص الزعماء والقادة في رحلة البذل والعطاء من زاوية خدمة الجمهور، يكمن في اكتشاف معرفة وتوجهات تفكيرهم على الصعيد السياسي والاجتماعي، وملامسة قدرة تدبيرهم التي توظف في النهاية لصالح تطلعات المجتمع ومقاصده.
ومن هذا المنطلق تتأطر محاولة الإبحار في توجهات وأفكار مولانا “محمد عثمان الميرغني” ووضعها على الميزان، فالعقل يمثل منهج الإدراك والتدبير وهو جوهرة الإنسان العادي، فالشاهد أن مولانا بحكم مكانته العالية وتأثيره الواسع لا يفكر لنفسه، وإنما محصلة تفكيره تتفاعل صوب المحيط البعيد وتذهب إلى مجريات متعددة.
{ السيرة الذاتية:
ولد مولانا “محمد عثمان الميرغني” حوالي عام 1930م بمدينة الخرطوم بحري، وهو الابن الأكبر لمولانا السيد “علي الميرغني”، وقد درس بمدرسة الأشراف بحلة خوجلي، وكان من زملائه المقربين في الفصل الدراسي الأستاذ “حسن حضرة” سليل أسرة الحضراب الشهيرة بضاحية شمبات، فضلاً عن الإداري البحراوي “النور عبد الله”، وقد نال مولانا بعد ذلك دراسات مكثفة في العلوم الدينية و ُرف في فترة شبابه بأنه كان هادئ الطباع، قليل الكلام، وعُيّن مستشاراً لوالده مولانا السيد “علي” وهو في العشرينيات، حتى صار عضواً بالمكتب السياسي للحزب الاتحادي الديمقراطي عقب محصلة الاندماج بين الشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي عام 1967م من خلال صيغة تاريخية بين الزعيم “إسماعيل الأزهري” ومولانا السيد “علي الميرغني”. ينتمي مولانا “محمد عثمان الميرغني” إلى أسرة (المراغنة) الصوفية ذائعة الصيت، التي يصل نسبها إلى الدوحة المحمدية، وقد تولى قيادة الطريقة الختمية التي يتكاثر وجودها في شمال السودان وشرقه، علاوة على مناطق متعددة في الجزيرة وكردفان وولاية الخرطوم ودارفور بعد وفاة والده عام 1968م، وأبناء مولانا “محمد عثمان الميرغني” من زوجته المرحومة الشريفية “مريم الميرغنية”، السيد “علي” وهو أكبر الأبناء وانتخب لرئاسة إدارة البنك الإسلامي السوداني، ثم مولانا “الحسن” وهو مرشح للخلافة، والسيد “عبد الله المحجوب”، والسيد “جعفر الصادق” مساعد رئيس الجمهورية، والسيدان “محمد” و”أحمد الميرغني” وهما في طور الإعداد.
{ كيف أصبح رئيساً للاتحادي الديمقراطي؟؟
تولى مولانا “محمد عثمان الميرغني” رئاسة الحزب الاتحادي الديمقراطي عقب الانتفاضة عام 1985م، وكانت فرصته في الحصول على هذا الموقع التاريخي محفوفة بالمخاطر والصعاب، باعتبار أن مجموعة كبيرة من الاتحاديين كانت ترى أن الرجل ظل مهادناً لنظام مايو، لذلك آثر مولانا الابتعاد والذهاب إلى (سنكات) فيما كانت السانحة متوفرة للمرحوم “أحمد زين العابدين” بوصفه أكبر المساعدين للشهيد “الشريف حسين الهندي” الذي قاتل النظام المايوي حتى الرمق الأخير من حياته.. فالشاهد أن هنالك عوامل كثيرة تدخلت لصالح مولانا “محمد عثمان الميرغني”، فقد لعب المرحوم “محمد الحسن عبد الله ياسين” بذكائه المعهود دوراً متعاظماً في إسناد الرئاسة لمولانا، وقد كانت حجته الدامغة كاريزما البيت الميرغني والموقع السياسي والديني لمولانا “محمد عثمان الميرغني”، فيما تم تعيين “الشريف زين العابدين الهندي” أميناً عاماً للحزب بناءً على تلك الصيغة الوفاقية الجاذبة. وقد جاء تكوين المكتب السياسي مناصفة بين الاتحاديين والختمية.
{ (الباب يطلِّع دبابة)
تشكل الهجرة المكثفة لقيادات وكوادر الاتحادي الأصل إلى المؤتمر الوطني وبعض الأحزاب السياسية الأخرى، محطة بارزة في عهد قيادة مولانا “محمد عثمان الميرغني”، فقد وصف البعض تلك الخطوات بأنها على شاكلة نزيف المتوالية الهندسية، حيث كان الانسلاخ من أروقة الاتحادي الأصل مهولاً يعانق أرض الواقع بين الفينة والأخرى فقد خرج من (الطاقم الأعلى).. مولانا “محمد سر الختم الميرغني” والأستاذ “أحمد علي أبو بكر” والأستاذ “عز العرب حسن إبراهيم” والمرحوم “فتحي شيلا”، وقد شملت قائمة الانسلاخ كلاً من “هشام البرير”، “عبد العزيز محمد الأمين”، “حسن هلال”، الدكتور “الباقر أحمد عبد الله”، “مجذوب طلحة”، “فتح الرحمن البدوي”، “صلاح الأزهري”، “كمال عمر”، “أسامة هلال”، “عفاف علي عبد الكريم”، “على قرين”، “محمد بابكر”، “مواهب مجذوب”، “علوية الشريف” والقائمة تطول.
الصورة المقطعية تؤكد بأن مولانا كان يقابل تلك الهجرة المكثفة بعدم الاكتراث من الناحية الواقعية، فهو يعتقد أن الاهتمام والجري وراء الذين تركوا الحزب نوع من الإهانة والتقليل من مقامه، وكان يقول دائماً لكل من يهدد بالاستقالة والخروج من الاتحادي الأصل بأن (الباب يطلِّع دبابة). ويرى البعض أن تلك المقولة لا تمثل استكباراً من مولانا، وإنما تعدّ ترياقاً لمقابلة أساليب الابتزاز والتحدي.
في حين تقول فئة أخرى إن مولانا يعتقد أنه لا يخطئ، وإن على الكافة واجب الطاعة والولاء ومن يخالف القاعدة عليه الخروج من الباب الواسع.
يقال إن واحداً من المشاهد الحية، جاء من يبلغ مولانا بأن هنالك ألفاً من العضوية خرجوا من الحزب بقيادة “كمال عمر” فكانت إجابة مولانا (ألف كـ أف فليذهب هؤلاء).. وبذات القدر فإن باب مولانا مفتوح لكل العائدين إلى الحزب دون مساءلة واستفزاز، فقد عاد الأستاذان “سيد هارون” و”معتصم حاكم”، بل استقبل مولانا الشقيقين “معاوية إبراهيم حمد” و”خضر فضل الله” اللذين جاءا من حزب “الشريف زين العابدين الهندي”.
وفي زاوية أخرى لا يقبل مولانا “محمد عثمان الميرغني” أسلوب المذكرات الإصلاحية التي تذهب إليه، فهو عنيد في الاستجابة والتعامل مع هذا النمط، وفي الذهن ما حدث للمذكرة الأخيرة التي كان يمثل فيها الأستاذان “علي السيد” و”الطيب العباسي” رأس الرمح.
وفي الإطار يقول البعض إن مولانا تحسّر على فراق رجلين هما “عز العرب حسن إبراهيم” و”أحمد علي أبو بكر”.
{ مرحلة التجمع والمشاركة
في اللوحة السريالية تحصّل الحزب الاتحادي الديمقراطي على المرتبة الثانية في الديمقراطية الثالثة، وقدم مولانا في تلك الانتخابات أكثر من مرشح في الدائرة الجغرافية الواحدة، وقد وجد هذا المنهج امتعاضاً شديداً من معظم منسوبي الحزب.
وكانت أبرز إنجازات مولانا “محمد عثمان الميرغني” في الديمقراطية الثالثة اتفاقية (الميرغني- قرنق) التي وقعت في 16 نوفمبر 1986م، غير أن الاتفاقية لم تجز في البرلمان على خلفية تقاطع الآراء مع الإمام “الصادق المهدي” حول ملامح الاتفاقية، وقد أدى هذا الموقف إلى انسحاب مولانا من الحكومة، لكنه عاد سريعاً للمشاركة في السلطة مع حزب الأمة خلال مذكرة الجيش الشهيرة حتى وقع انقلاب 30 يونيو 1989م.
{ التجمع من سجن (كوبر)
دخل مولانا السجن لأول مرة في سجله السياسي في عهد الإنقاذ، واستطاع تكوين هياكل التجمع في ردهات سجن (كوبر)، حيث قضى أكثر من (8) شهور وسافر إلى الخارج بناءً على توصية طبية.
أصبح مولانا رئيساً للتجمع المعارض لحكومة الإنقاذ لمدة (19) عاماً، تجول خلالها ما بين القاهرة وأسمرا ولندن ودول الخليج، لكنه عاد عام 2008م عقب وفاة شقيقه مولانا “أحمد الميرغني”، وشارك في السلطة بموجب اتفاقية القاهرة عبر التجمع، وأيضاً عاد للدخول في الحكومة مرة أخرى خلال التشكيل الوزاري ما بعد انفصال الجنوب، وقد وجدت تلك الخطوة احتجاجات كثيفة ورفضاً منقطع النظير من معظم منسوبي الحزب، غير أن مولانا استخدم صلاحياته التي حاز عليها في مؤتمر المرجعيات بالقاهرة عام 2004م لتمرير قرار المشاركة في حكومة (الإنقاذ).
{ ماذا قال عنه الإمام “الصادق”؟!
مشهد العلاقة الثنائية التاريخية بين حزب الأمة القومي والاتحادي الأصل كان يدفعنا بشكل تلقائي للتوجه صوب الإمام “الصادق المهدي” لمعرفة رؤيته حول طرائق تفكير مولانا “محمد عثمان الميرغني” في العمل السياسي، فهنالك صولات وجولات بين الرجلين ومشوار طويل في الائتلاف والتفاكر المشترك حول تنظيم دفة الحكم خلال العهود الديمقراطية.
جلست مع الإمام قبيل منتدى الصحافة والسياسة الأخير بمنزله في محاولة للإجابة عن توجهات التفكير والتدبير في عالم مولانا من الزاوية السياسية، وفي الذهن التجربة المشتركة بين الاثنين غير أن “الصادق المهدي” نظر بعيداً وطلب إعفاءه من الإجابة عن السؤال، وأدركت كصاحب قلم أن تعليق الإمام إجابة تحمل المعاني المضغوطة جرياً على القاعدة الذهبية أن في الصمت كلام، وأن من قال لا أدري فقد أفتى..
{ “الترابي”: مولانا (صوفي وبراغماتي)
يقول الدكتور “حسن الترابي” الزعيم التاريخي للحركة الإسلامية المثير للجدل: كانت لي تجربة مع مولانا “محمد عثمان الميرغني” بعد إسدال الستار على نتائج انتخابات الديمقراطية الثالثة، واتفقنا على عدم المشاركة إلا بعد الرجوع إلى بعضنا، غير أنه شارك مع حزب الأمة في السلطة، وهذا يعني أنه يمارس اللعبة السياسية بما فيها تكتيك وتصادمات وإرباك، وفي تقديري أن مولانا يمارس (التفكير القياسي) وهو يخطئ ويصيب في أعماله.. وأرى بأن المنهج (الصوفي) له تأثير واضح في تحركاته وطرائق إدارته للأمور من زاوية التأني والصبر، وهو كذلك (براغماتي) ينظر للمصلحة والفائدة. وفضلاً عن ذلك، له رمزية مقدرة في المسرح السوداني.
{ “أحمد علي أبو بكر”: مولانا عميق ووطني
ذهبنا إلى الأستاذ “أحمد علي أبو بكر” رئيس المكتب التنفيذي للاتحادي المسجل بوصفه ذا علاقة وثيقة مع مولانا “محمد عثمان الميرغني” وله خبرة مشهودة في التعامل معه قبل الخروج من حزبه، يقول “أحمد علي” إن تفكير مولانا قائم على الاهتمام والتركيز بالتفاصيل الدقيقة والأشياء غير المرئية، فهو يعرف ما يريد ويتملكه إحساس المستمع الممتاز الذي يعطي فرصة التداول لجميع أعضاء المنظومة الحزبية، لكنه في النهاية يتخذ القرار وفقاً لقناعاته الشخصية ولا يرفض الرأي المخالف إذا شعر أنه يصب في المصلحة الحزبية والوطنية.
ويوضح “أحمد علي” في لهجة تهكمية، أن أية مجموعة تدور حول فلك مولانا إذا لم تعرف كيف تضغط على الزر السحري في تركيبته، ستكون مستخدمة من جانبه حتى إذا كانت تعتقد بأن مولانا يطبق آراءها.
ويرى “أحمد علي” أن واحداً من أساليب تفكير مولانا أنه يجعل الذين معه لا يدركون ما وراء تحركاته وإدارته للأشياء. وعلاوة على ذلك، فإن مولانا رجل عميق ووطني.
{ “أبو عيسى”: شيخ أهلي حذر وصبور
يقول المحامي “فاروق أبو عيسى” رئيس تحالف أحزاب المعارضة إن مولانا “محمد عثمان الميرغني” رجل ذكي في تفكيره وتقديره للأمور، بل مفرط في الذكاء والحكمة، وهو يتقصى النتائج ويتحسب الأشياء قبل وقوعها. وقد عملت معه أكثر من (18) عاماً في التجمع، وتلمست رجاحة عقله وصبره على المكاره وكيف يدير المعارك ويخرج من الأزمات والخطوب، وكنت دائماً أقول له أنت شيخ أهلي وعشيرتي بود مدني عندما أراه يفك الطلاسم والأشياء الغامضة.
ومن صفات مولانا الحذر والتحوط في قراراته، وكانت هنالك واقعة تدل على ذلك حدثت عام 1997م تتعلق بقبول حركة تحرير السودان الدارفورية في عضوية التجمع، فقد اتخذ مولانا القرار الصحيح المبني على الحيطة حتى لا يقع التجمع في خدعة كبيرة من جانب نظام (الإنقاذ)، بسبب أن طلب الانضمام للتجمع من الحركة الدارفورية جاء عبر الهاتف في ظروف الحرب الشرسة بين المعارضة والإنقاذ.
ويوضح “أبو عيسى” أن منهج مولانا يتسم بالدقة، فهو لا يحتمل وقوع الأخطاء حتى لو كانت بنسبة (1%)، وهو رجل متواضع ويميل إلى الدعابة والقفشات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية