رأي

أنا يتيم

عبد المنعم شجرابي

× لا جديد في حروف الحزن، لا جديد في عبارات التأسي والتواسي، ولا مفردات حديثة الولادة في الصبر والجلد والتجلد.. لا جديد في اليتم والتأتم.. لا جديد في كل ذلك لأخطه وأكتب به عن ألمي وحزني ووجعي، وجعي الشديد والشديد وكل ما هناك أنني أكتب بقلب مفجوع وكبد مقطوع وعين تقطر دماً، ولو كان البحر مداداً لحزني والشجر أقلاماً لأكتب به لما كفى فأنا غارق في محيط حزني من أعلى رأسي حتى أخمص قدمي.. وأمي الحبيبة.. الجميلة النبيلة ترحل في أيام مباركات إلى دنيا الخلود مع بقاء يومي لها على السجادة والوضاية والكرسي والسرير، وحركة لها في كل ركن وشبر بالبيت وقطرات الوضوء على جبينها الصبوح وابتسامة حلوة على ثغرها الباسم، ويد ممدودة بالخير وقدم ساعية للخير وفم صائم فرضاً وتطوعاً وجسد قائم نصف الليل أو زد عليه قليلاً ولسان طيب ذاكر وداعياً رب الناس بالخير للناس..
× وسأكتب وأكتب بالحزن كله عن أمي الراحلة المقيمة “ست الجيل بت عطية الله ود الفكي”.. “ست الجيل بت فاطمة بت صالح الباشاب” الشريكة في” الحلوة والمُرة” لعامل السكة الحديد البسيط المرحوم “عبد الله ود حمد ود شجرابي ود فاطمة بت زروق” وهي تبني معه بكل المودة والرحمة حياة زوجية مباركة، ثمرتها أبناء ربوهم وعلموهم وأدبوهم وأحسنوا تأديبهم وقدموهم للوطن بعد أن زودوهم بوطنية عالية الجودة..
× وسأكتب وأكتب بالحزن كله عن أمي الحبيبة المسجلة في ضيوف الرحمن حجاً وعمرة مرات عديدة، والرحيمة بالرحم الحافظة لحقوق الجيرة والجار ممدودة اليد بالمباركة في الأفراح والمواسية في الأحزان.. الحاجة “ست الجيل” العمة والخالة والحبوبة.. المرشدة والمعلمة والموجهة والشارحة المبصرة لأهلها وأحبابها بأمور دينهم ودنياهم..
× سأكتب وأكتب وأكتب عن أمي التي عجنتني وشكلتني ونصحتني وناصحتني وأرشدتني واختصر فأقول كل ما فيني من خير هو ملك لها، وغيره فهو لي ومن صنع يدي، فقد كانت زادي وعتادي استقوى بها عند الوهن وانتصر بها في المواقف واتدثر وأتزمل بها عند خوفي وأطلب دعواتها وعفوها ورضاها تأشيرة خروج متى ما خرجت وتأشيرة دخول متى ما عدت إلى المنزل مكتفياً وغير مكتفٍ بتقبيل رأسها والذي يبقيني دوماً مرفوع الرأس..
× سأكتب وأكتب وأكتب عن امرأة وأم استثنائية ترملت شابة فكانت نعم الأم والأب سماها أبواها “ست الجيل” فكانت ست الكل وست الحبايب وست الناس تلقي عليهم ثمر الخير وتحجب حصى الشر.. تمد الظل وتقصر الحرور وترطب وتهدي وتعطي وتمنح بإذن ربها على كل محتاج تجاه حاجته..
× سأكتب وأكتب وأكتب وأنا موجوع موجوع موجوع وجعي كبير وألمي عميق وحزني طاغي والسطور تتداخل والأفكار تائهة والتركيز مفقود والعذر معي فالقرطاس اللحظة ليس قرطاسي ولا القلم قلمي ولا التحبير لي وأنت يا أماه عن سريرك ومتكاك غائبة جسدياً ومعنا وبيننا حاضرة.. أحفادك كلهم يبقون على نغمة حبوبة وكأنهم لا زالوا وما برحوا حولك يجلسون فرادى وجماعات وحبوبة “تحضن وتبوس” داعية لهم رب العباد بالحفظ والصون والتوفيق والنجاح..
× أمي الحبيبة أحبس اللحظة حزني وسط هؤلاء وألا أضعف وأعذريني أن فشلت فأنا آنياً أضعف من منديل ورق معطون بالماء ولولا إيماني بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لشققت الجيوب ولطمت الخدود ودعوت بدعاء الجاهلية “وكبيت السجم والرماد” على رأسي ومسحت به جسدي ففقدك كبير وعظيم..
× أماه أماه وجعي شديد فأنا موجوع موجوع للآخر وسأفتقدك فأنت ضراعي وهمتي وزادي وحياتي.. سأفتقدك وأنت أستاذتي التي علمتني أن التزم في مهنتي الصدق والأمانة وأن أمسك واعياً ومدركاً ومؤمناً أن القلم أقسم به رب العباد..
× سأفتقدك وأنت نوري وضيائي وخارطة طريقي إلى الخير وفعله وسيفتقدك أهله ومعارفك وأبناؤك وأحفادك وأنت لي ولهم الحبيبة ولشقيقتي “آسيا” الأم والأخت والصديقة والرفيقة ولنا جميعاً الحنان والتحنان والحنية والصدر الحنون والملجأ الدافيء..
× وستفقدك أمي حلقات التلاوة وصوت شيخ “الزين” عبر إذاعة القرآن الكريم وأنت المستمعة الأولى.. ستفقدك تلك الطيور والعصافير والحمامات والقمريات التي تلتقيك صباحاً ومساء وهي خارجة وعائدة إلى أعشاشها وأنت تلقي لها الحب والبذور وتمليء لها إناء الماء.. سيفتقدك الليل وأنت تقيميه مسبحة ساجدة راكعة حامدة شاكرة.. وستفتقدك شمس الصباح وأنت تصلي ركعتي الضحى..
× سيفتقدك الحبان والضيفان والحق والجمال والفضيلة وستفتقد عائلة “الدوغري” في كل مكان.. المرأة “الدوغرية” ست الجيل ست الناس ست الحبايب.. وفي كل عيد للأم سيقف الجميع دقيقة حداداً وترحماً عليك فأنت دوماً الأم المثالية رحم الله كل أمهاتنا الأحياء منهن والأموات.. وأمسحوا على رأسي يرحمكم الله فأنا يتيم يتيم ولا حول ولا قوة إلا بالله..

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية