آخر سنوات “البشير” (7)
لم تتشكل أجنحة ومراكز قوى داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم وحكومته من بعد المفاصلة نهاية العام 1999م لعدة سنوات، وظلت القيادة السياسية موحدةً إلى أن حل على الخرطوم مبعوث أمريكي عجوز هو السناتور الجمهوري “جون دانفورث” الذي مارس ضغوطاً مكثفةً لحمل الحكومة على الانخراط في مفاوضات جدية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل “جون قرنق دي مبيور” في العام 2002م .
قاد مستشار الرئيس لشؤون السلام الدكتور “غازي صلاح الدين العتباني” وفد الحكومة إلى المفاوضات التي احتضنتها ضاحية “مشاكوس” الكينية ، فيما ترأس وفد الحركة نائب قائد الحركة “سلفاكير ميارديت” . بعد شهر بالضبط ، وقع الطرفان برتوكول” مشاكوس” في 20 يوليو 2002م ، البرتوكول نص على موافقة حكومة السودان على حق مواطني جنوب السودان في تقرير المصير بنهاية الفترة الانتقالية ومدتها (6) سنوات تسبقها فترة تمهيدية عمرها (6) أشهر ، كما أقر البرتوكول اعتماد المواطنة وليس الدين أساساً للحقوق والواجبات، وأجاز تولي غير المسلم لرئاسة الجمهورية .
بعد توقيع الاتفاقية ، ومع بدء الجولة الثانية للمفاوضات ، احتلت قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان مدينة “توريت” الإستراتيجية في الأول من سبتمبر 2002م . كانت الحركة تسعى للضغط على الحكومة لتقديم المزيد من التنازلات في ملفي قسمة السلطة والثروة ، فكانت تلجأ لتحقيق انتصارات على صعيد الميدان لتعينها على طاولة التفاوض!! ذات المنهج الذي تعمل به إلى اليوم الحركة الشعبية – جناح “الحلو” وحركات دارفور إتباعاً لمنهج أستاذهم الراحل “جون قرنق” .
غضب الرئيس “البشير” لاحتلال “توريت” وأمر بسحب وفد الحكومة المفاوض من كينيا ، وعقد اجتماعاً طارئاً مع قيادة الجيش ، ثم أعلن عبر الإذاعة والتلفزيون أنهم قرروا إطلاق يد الجيش في كل مكان ، وأنه لا عودة للمفاوضات إلا بعد تحرير “توريت”. الحركة الشعبية على لسان الناطق باسمها “سامسون كوانجي” قالت إن قوات الحكومة لم تتوقف عن قصف مواقع الجيش الشعبي طيلة المفاوضات ، فلماذا غضبوا اليوم عندما أسقطنا “توريت” ؟!
عاد “غازي صلاح الدين” إلى الخرطوم ولم يكن راضياً عن قرار سحب الوفد . وأذكر أنني زرته والزميل الأستاذ “محمد الفاتح أحمد” في منزله الحكومي بشارع البلدية بالخرطوم ذات مساء بعد عودته من كينيا ، كان مستاءً جداً من قرار الرئيس ، ووجه انتقادات لاذعة لقيادة الجيش ، وقال ساخراً :(يقولوا ليك جيش الحركة عندو دبابات “برمائية” دخل بيها توريت !!) .
ظل “غازي” في كل المحطات والمناصب التي تقلدها في الحكومة والحزب منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وإلى أن فارقهما في العام 2013م، ظل معتداً بنفسه ، قوياً في آرائه ومواقفه ، لم يُعرف عنه تزلفٌ أو تقربٌ للرئيس لأجل منصب أو امتياز، وربما خلقت حالة اعتداده بنفسه حاجزاً بينه و”البشير” حتى عندما كان مستشاره السياسي ثم مستشاره لشؤون السلام . وقد بدا لي أن “غازي” كان يتعامل مع معظم قادة الحكم في تلك الفترة بمن فيهم رئيس الجمهورية باعتبارهم أدنى منه معرفةً وأضعف فكراً. أُنتخب “غازي” أميناً عاماً للمؤتمر الوطني في العام 1996م ولمدة عامين ، كأول أمين عام من رموز الحركة الإسلامية بعد أن كان العمل السياسي محدوداً وحصرياً على العسكريين في سنوات (الإنقاذ) الأولى ، حيث ترأس العميد “حسن حمدين” الواجهة السياسية قبل “غازي” بذات الاسم . وخلف الشيخ “حسن الترابي” تلميذه “غازي” في أمانة الحزب في العام 1998م .
ثم نافس دكتور”غازي” الأستاذ “علي عثمان” في انتخابات أمانة الحركة الإسلامية عام 2004م ، واعتقد البعض وقتها أن “غازي” كاد أن يفوز على النائب الأول لرئيس الجمهورية لو لم يتحرك البعض ويهتفوا داخل جلسة المؤتمر : (سقوط علي عثمان .. سقوط الدولة) !!
بعد انسداد أفق المفاوضات في كينيا ، نشط الوسطاء الكينيون مع المبعوث الأمريكي لحمل الطرفين على العودة للطاولة ، بدلت الحكومة قيادة الوفد في العام 2003م ، فأصبح “علي عثمان” رئيساً للوفد بديلاً لـ”غازي صلاح الدين” ، واستقال “غازي” من منصب مستشار الرئيس في ديسمبر 2003م .
وغير تفاعلات الداخل ومواقف “غازي”، فإن الوسطاء أرادوا ترفيع مستوى الوفدين ليسهل اتخاذ القرار والوصول السريع لاتفاق سلام ، فأشاروا على الرئيس للدفع بنائبه الأول ، على أن يأتي “قرنق” رئيساً لوفد الحركة.
نواصل غداً .