رأي

استودعتك الله أمي…. إلى جنات الخلد

أمل أبوالقاسم

لن أنسى ما حييت تلك الأمسية والتي أعقبتها ، كيف أنساهما وقد بدلتا وقلبتا حياتي رأساً على عقب وسلبتاني روحي فصرت محض جسد غابت عنه روحه. إنها ليلة 26/نوفمبر من العام المنصرم عندما بلغ المرض بأمي مبلغاً استدعى حملها للمشفى وهي التي تهاب المشافي لكنها الضرورة، ومدى ما تقاسيه دفعاها للاستجابة وهناك بمشفى حاج الصافي رقدت وهي تعاني صعوبة في التنفس سرعان ما تفاقمت عند ساعات الصباح الأولى، وقبلها قضيت ساعات الليل أهرول ما بين صفاء الصيدليات ومروة المعامل التي لم تبشر أي من نتائجها بإيجابية فتوالت عليها العلاجات واحداً تلو الآخر، ثم التفت حولها سيور المحاليل وجهاز التنفس يسجل قراءاته طيلة الليل. قالت الطبيبة لابد أن يستمر معدل التنفس في الدرجة كذا وأن انخفضت عنه فلابد من إخطارها فوراً فظللت طيلة الليل أرقبه يعلو ويهبط، وهي كذلك ظلت مفتوحة العينين طيلة الليل، وكلما دعوتها للنوم تغمض جفونها، ثم سرعان ما تفتحهما كيف لها النوم وبها ما بها!!. وعندما انتصف نهار اليوم الثاني ظلت تحدق ببصرها بعيداً، ثم تصوبه نحوي وتثبته لمدة طويلة وكأن بعينيها قد توقفتا كلياً عندي فأقوم إليها وكمن يميت أحداً، أعمل على غمض عينيها وأنا أطلب منها إرخاهما فقط فقد تعبتا من التحديق، لكنها لا تفعل ثم تترك كل ذلك وتقبض على كفي بقوة وتتشبث بهما، وبالكاد بعد سؤالها إن كانت تريد شيئاً تفكهما. كان قد طلب إلينا أن نرفعها للعناية الوسيطة وقبلها مررنا على الأشعة لأخذ صورة للصدر أسفرت لاحقاً عن ضمور في إحدى الرئتين وفشل في التنفس أدى لتسمم بالدم ثم ألحقت بالمزيد من المحاليل التي طوقتها من كل ناحية قبيل أن يطلبوا منا تحويلها للعناية المكثفة لتأخر الحالة فما كان مني إلا أن استنجدت بعدد من المشافي التي تعذر بعضها لامتلائها. وكان الفرج عند الدكتور الإنسان “المعز حسن بخيت” الذي أعدّ العدة لاستقبالها بمستشفى (النو) فحملناها على إسعاف وقد أخذ منا اليأس والخوف كل مأخذ لكنها سويعات وجاءنا التبشير بأن حالتها قد استقرت، وبالفعل هدأ نفسها وأخرجت ما استعصى من مثانتها والأهم أنها عادت لحضورها وتفرست في وجه كل الحضور من ذويها وهي تومئ برأسها كلما سألوها عن وضعها.
الحمد والشكر لك ربي كدت أخرّ إلى الله ساجدة من فرط سعادتي فقد شعرت أن الحياة دبت في روحي وروحها بعد أن سلبت ليوم وبعضه، وجلست إلى أهلي ودكتور “معز” نتسامر وبداخلي فرح طفولي حتى الساعات الأولى من الصباح فتركوني وقد تخلف بعضهم على أن يعاودونا صباحاً. طلعت لأطمئن عليها فمنعتني السسترات وفتحن الباب نصف فتحة وقلن بأنها جيدة وتخلد للنوم. حسناً فأنا ماذا أريد أكثر من ذلك فهي تعبة ولم تنم ليلة البارحة فنزلت بدوري وأرخيت جفوني لساعتين، قبيل أن ينبلج الفجر استيقظت وفي بالي أن لا أزعجها باكراً فلتهنأ بالنوم لكن طلعت مرافقتي وعادت إليّ بأن أمي تعاني هبوطاً حاداً ونقصاً في الأوكسجين، هرولت إليها وفتحت باب العناية ولم تقاومني السسترات هذه المرة، لكن ماذا رأيت؟ كانت أمي كأنها ما زالت تغط في نومتها بتلك الغرفة الباردة، حاولت هزّها وأمسكت بيدها علها تتشبث بي، لكنها لم تفعل. حاولت أن أشدّ عليها أنا لكنها لم تستجِب، رفعت رأسي أنظر للجهاز فكانت بضعة وعشرين لا أدري لأي مقياس هي فخرجت وخليط من المشاعر ينتابني أو فلنقل عدم الإدراك فلم أقوَ على البكاء ولا الصراخ تبلدت مشاعري ربع ساعة وخرج والدي يتشهد وأخذني في حضنه وأجهش بالبكاء.
أشهد الله وأنا أغسل جسدها الطاهر كان فمها قد افترّ عن ابتسامة خفيفة وجسدها كما الحرير.. كنت أسمع الجميع حولي يقولون بأنها سوف تذهب إلى ربها نظيفة.. كيف لا ولم تكن والدتي مشاءة ولا نمامة بل كريمة، عطوفة ثقيلة بميزان الصخر وصبورة صبر لم أشهده عند كائن كان… لم تفزع أو تجلد لأي أمر وهي التي عانت ما عانت منذ خليقتها وحتى مماتها. حتى بمرضها الأخير كنت أسألها بما تشعرين فترد بلا شيء ولكم أن تتخيلوا أن كل الفحوصات بها علة ومع ذلك لم تشكُ.
كنت في صغري أتعلق بها تعلقاً مفرطاً وكانت تدللني بإسراف، وتعاقبني بمقدار أقل من الجرم ثم تعود لتعتذر بأي سلوك، ارتباطي بها كان يؤلب عليها من حولي وأنا أنام إلى جانبها حتى تساوى جسدي مع جسدها النحيل، إن بعدت عنها سرعان ما أعود وأطل براسي لأتاكد من وجودها وأدعو الله في سري أن يقبض روحي قبل روحها حتى لا أشقى بفراقها؛ فهي وحيدتي في الدنيا وأنا كذلك. كبرنا وشغلتتا الدنيا وانصرفنا عن الجلوس إليها لكنها لم تنصرف عنا وهي في سريرها بعد أن حدد كسر برجلها حركتها فلا تنفك تسأل عني إن شكوت علة ولا من أولادي إن تأخر أحدهم عن المدرسة ذهاباً أو إياباً.. ظل مكانها شاغراً وسريرها فارغاً نمرّ من أمامه على عجل.. هل تصدقوا أن ملابسها ما زالت بخزانتها أراوغ في التصدق بها كلما انتويت ذلك.
يقولون وكنت أيضاً أظن أنه، وكلما توارت الأيام ترمم الجروح ويبرد الفجع والألم لكني وجدت العكس فأنا في كل يوم أحنّ أكثر لأمي وأشتاقها، أسمع صوتها للحد الذي أرفع فيه رأسي وأصغي السمع إمعاناً في التأكد.. أمي يتمت بي وبوالدي رفيق دربها وصنوها بالحياة وبأولادي.
عذراً عزيزي القارئ إن استبحت المساحة في أمر شخصي لكني أعلم إنه ذات الوجع انتاب عدداً مقدراً منكم… والدنيا قبائل عيد أتمنى من الله القدير أن يتقبل جميع أمهاتنا من المتوفين وأن يمن بالصحة والعافية على الأحياء منهن وأن لا يريكم الله مكروهاً فيهن.
استودعتك الله يا أمي إلى جنات الخلد مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً وأتمنى من الله العفو عني في تقصيري.. ارقدي بسلام وليجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة وأن يتلطف بنا آمين.

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية