"الزبير باشا رحمة "… (صداد) الخيل و(عابد) الليل!!
شهد العام )1831م) حدثاً عادياً في جزيرة (منواشي) من أعمال منطقة (الجيلي) شمال الخرطوم بحري الحالية، حيث ولد لأسرة السيد (رحمة) ابناً ذكر أطلقت عليه اسم (الزبير)، لكن الأقدار والمثابرة رفعت (الطفل) الصغير بمجرد أن شبَّ عن الطوق صبياً درجات لم يكن بمقدور أكثر (العرافين) حينها قدرة على استشراف المستقبل، والتنبؤ بها.
أُلحق (الزبير) بخلوة (أبو قرين) لحفظ القرآن، تعلم الكتابة على ألواح الخشب (1913م)، وأبدى ذكاء وقدرات فذة في الإدراك والاستيعاب، ما دفع بعض (حكماء) الناحية، إلى دفعه للالتحاق بجيش المستعمر التركي – المصري، فكان، لكنه إلى جانب ذلك كان ينشط في التجارة بكل أنواعها.
وفي رحلاته تلك سافر إلى (جنوب السودان) في العام 1865م، حيث عمل بالتجارة ببحر الغزال ومنطقة الزاندي، وما لبث أن أخضع بحر الغزال لسيطرته التامة، واتخذ من منطقة (بايو) التي أسماها لاحقاً بـ(ديم الزبير) عاصمة له، واستطاع في وقت وجيز أن يبسط نفوذه ويتمدد، فصارت الحكومة تضايقه وتلاحقه بعد أن وصفته بتاجر الرقيق، هذه التهمة التي ظل موصوماً بها دون النظر إلى جوانب أخرى من شخصيته القيادية الفذة، تحتاج إلى مراجعة – لسنا بصددها الآن – إنما نريد تسليط الضوء على صورة (مختلفة) عن تلك، ربما نحدث بها حالة توازن، إذاً فلنرى:
صد الخليل وقيام الليل
تقول الصحفية البريطانية (فلوراشو): إنه بدأ حياته تاجراً بسيطاً، ثم ما لبث أن تحول إلى رجل سياسة وتجارة وحرب، أسعفه ذكاؤه الفطري وشجاعته ونشاطه وقوة عزيمة، وما تميز به من صفات الزعامة مثل الاستقامة للخروج من بلدة الجيلي وهو بعد ابن الخامسة والعشرين، إلى جانب هذا، فإن شاعرته الشهيرة (بت مسيمس) عددت صفاته ولم تحصها، من ذلك قولها:
سموك الزبير فارساً تشد الحيل
سموك الزبير فارساً تصد الخيل
سموك الزبير صالحاً تقيم الليل
سموك الزبير بتغير هوية ليل
{ من هو الزبير باشا؟
لكن كثيراً من المؤرخين، لا يحفلون بما يقوله الشعراء، حتى أن أحدهم تساءل (كيف تستقيم عبادة الليل والسهر مع صد الخيل ودحر العدو؟)، لكن المؤلف الراحل “خليفة عباس سعيد” قال: إن الزبير ابن رحمة) الذي حُظي لاحقاً بلقب عظيم (باشا)، خرج من قريته للحاق بابن عمه “عبد القادر” الذي كان يعمل في خدمة التاجر “علي عموري”، وعندما حاول ابن عمه رده على أعقابه أصر (الزبير) على موقفة و(حلف بالطلاق) أن لا يعود، وأضاف ” خليفة”: أدرك “الزبير” القافلة في بلدة (ود شلعي)، فكانت تلك هي أولى رحلاته التجارية ناحية بحر الغزال (1856م)، ومنذ ذلك التاريخ بقى ” الزبير” بعيداً عن دياره وأهله، ولما اكتشف التاجر “عموري” ما في الصبي من أمانة وشجاعة وحسن تدبير جعله وكيلاً له بـ(عُشر) صافي الأرباح، و(عشر) ما يجمعه من العاج وسن الفيل وغيرها من البضائع.
مصاهرة آكلي لحوم البشر
عاد “الزبير” إلى الخرطوم في العام 1858م، بما غنمه من تجارة رابحة، وأنفرد بعدها يعمل لحسابه الخاص، واصل “الزبير” تجارته بالشراكة مع ابن عمه “عبد الرحمن”، هذه المرة بين بحر الغزال ومشرع الرق والخرطوم، في سن الفيل والريش والخرتيت يقايضه بالودع والخرز والقصدير والدمور، وكان بين من عمل معه وتحت إمرته آنذاك القائد المهدوي (لاحقاً) “النور عنقرة”.
واستطرد “خليفة عباس سعيد”، وصل “الزبير” إلى بلاد (النمانم) الذين يعتقد أنهم من آكلي لحوم البشر، وتزوج بابنة سلطانهم “شكمة بن زنقابور” المدعوة “رانبوه”، وكان موقع “الزبير” في بلاط ملكهم “شكمة” أشبه بمنزلة “سيدنا يوسف” لدى “فرعون”، ظل يتمتع بحظوة كبيرة خاصة بعد بلائه الحسن في حروب “شكمة” ضد جاره السلطان “مريسه”، فأنقذ “الزبير” حياة “شكمة” ببسالة نادرة جُرح أثناءها، فكانت مكافأته تزويجه ابنة الملك اعترافاً بفضله ورداً للجميل.
(26) ولداً وعدد كبير من البنات
من ناحيتهم قال أحفاد “الزبير باشا” الذين زارتهم (المجهر) وهم (ساري الياس الزبير باشا، وصلاح أسعد الزبير باشا، وأحمد الشيخ الزبير باشا، إن جدهم تزوج بعدد كبير من النساء، فأنجب عدداً كبيراً من البنين والبنات، عرفنا منهم أكثر من (26) ولداً، وعدداً كبيراً جداً من البنات، وشددوا على أن جدهم لم يكن تاجر رقيق كما يشاع عنه، إنما تاجر في العاج والريش، وأضافوا لدينا (سرايا) في الجيلي حولناها إلى متحف يضم كل مقتنيات جدنا “الزبير باشا”.
تشييع بعربة مدفع
بغض النظر عن كونه “تاجر رقيق” و”تاجر سن فيل وريش وعاج”، فإن حياة “الزبير باشا رحمة” ظلت حافلة بالكثير من الأحداث التي تستحق التوثيق، حيث أن بعض المؤرخين يصفونه بأنه تاجر رقيق، وآخرون يقولون إنه كان عميلاً للاستعمار، بينما يعتبره آخرون بطلاً قومياً وشخصية نادرة وفذة قل مثيلها، وإنه لو كان عميلاً لما نفاه المستعمر وسجنه ونكل به تنكيلاً.
على كلٍ، هذه هي الصورة الأخرى لـ”الزبير باشا رحمة”، الذي توفي عام 1913م، وشُيعت جنازته في موكب رسمي بعد أن نُكست الإعلام وعطلت الدواوين، وحُمل جثمانه على عربة مدفع، ليدفن في المقبرة التي تحمل اسمه بـ(الجيلي)، وفي نعيه ورثائه قالت شاعرته المشهورة (بت مسيمس):
في السودان قبيل ما يشبهوك الناس
يا جيل الدهب الصافي ماك نحاس
ود رحمة الزبير تم الرجالة خلاص