* لن يمر وقت طويل قبل أن تثار بطريقة أو بأخرى قضية الهوية السودانية وتنازعها بين الثقافة العربية والأفريقية.. ويتشدّد بالتالي دعاة عروبة السودان إلى موقفهم، مستندين إلى عدة دلالات منها الدين واللغة.. ولا يقل عنهم المنافحون عن الأفريقانية في الدفع بصفات تنقل بلادنا إلى أن تكون جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الأفريقية منها اللون والمزاج والبيئة المناخية.
* نؤكد بداية أن السودان هو بلد مزيج من الثقافات والأعراق والأمزجة المختلفة تغلب عليه الثقافات الأفريقية، ولا يقدح ذلك في تثبيت الثقافة العربية ومكونها الديني واللغوي، وقطعاً لا يفسر هرولة بعض النخب في الوقت ذاته نحو الإشادة التي تأتي من العرب مهما قل شأنها.
*برأيي أن الأزمة أكبر من مجرد انطباع ذاتي عن موقف أو أغنية أو سجال دار بين شخصين للدلالة على هوية بلد ما.. وليس الأمر غضباً وقتياً من منسوبين لإحدى الدول العربية لا يستنكف بعضهم في أن (يدلق) على أسماعنا عبارات عنصرية (تكاثرت خلال الأيام الماضية).. أو احتفاء حدّ المغالاة بأمانة أحد السودانيين بالخارج أو فوز مبدع سوداني في إحدى المسابقات التي تذاع عبر القنوات العربية (الوالغة) في تصدير (الهِشك بِشك) ونشر الثقافة الاستهلاكية لما تنتجه نظيراتها من القنوات الأوروبية والغربية.. هو ليس كذلك أو غيره من تلك الأحداث الفردية التي رغم أنها تساهم في تشكيل رأي سلبي أو إيجابي وقتها، إلا أن القضية أعمق من ذلك بكثير.
* نتخيل بدءاً أن السودان دولة أفريقية تزخر بكم هائل من الثقافات والعادات والتقاليد وتتمازج فيها تلك الثقافات أحياناً بالانصهار والتآلف والارتباط وأحياناً بالاقتتال والعنف والاحتراب.. ولكن ذلك لا يعني عدم وجودها وإعلانها عن نفسها.. وهذا التنوع لا يقتصر على السحنات والأديان والثقافات ولكنه كذلك يرتبط بالأمزجة المختلفة التي تتفاعل مع محيطها المحلي والعالمي.
* وخصوصية تنوع بلادنا حتمّت بضرورة تاريخية أن يتم التعامل معها وفق هذا التباين، وأن لا يتم الارتهان لأية ثقافة على حساب أخرى مهما علا صوتها وأثرت أكثر من غيرها في الحياة العامة.
*وهذا النوع بالذات هو ما تسعى له بعض النخب التي تتبنى (عربنة) السودان وفصله عن هويته التاريخية، وجعله مجرد إدارة تابعة لبعض الدول العربية.
*تسعى بعض النخب إلى أن تنسخ تاريخاً يمتد إلى أكثر من سبعة آلاف عام لصالح قلة قدمت إلى البلاد قبل مئات السنين فقط.
*لا نريد الارتماء في حاضنة ثقافية سواء أكانت أفريقية أو عربية.. لأننا (نحن سودانيون).
*ذاك ما يجب أن يعلمه من يتبنى (عربنة) هذه البلاد.. وتغذية كل الأجيال بمفهوم أن الجنس العربي هو الأكثر نقاءً والأفضل أن يتم الانتساب له.. أو من يعمل على إغلاقنا في أفريقيتنا.
*الثقافة العربية واحدة من الثقافات التي أثرت بشدة في المجتمع السوداني.. دمغته بطابعها واستطاعت أن تثبت نفسها على حساب ثقافات أخرى أكثر عمقاً في الأرض السودانية مثل النوبية والبجاوية وغيرهما.
*لهذا لا يمكن إنكار أن الثقافة العربية الأكثر تأثيراً وقدرة على التماهي مع المجتمع السوداني.. وظروفه ومتطلباته و(بعض) مزاجه.. نعم أثرت فيه كثيراً.. ولكنها ليست الهوية السودانية.
*الهوية السودانية تتشكل من عدة متفرقات في السحنات والألوان والثقافات والبيئات المتباينة والأمزجة والديانات.. ولكل تلك الهويات كيانها وخصوصيتها.
* نحن سودانيون.. وحدها تكفي لكي تؤشر على المنطقة الجغرافية التي تمنحنا الآن الانتماء والبقاء والأمن.
*نحن سودانيون فقط.. ويمكن لهذه الكلمة أن تضم كل هذا الشتات الذي يتوزع شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
*ولأن المبدع لسان حال شعبه ووطنه تكفل كثيرون منهم بالتبشير بهذا التمايز الوطني شعراً وموسيقى وغناء.. فكتب “الفيتوري” و”صلاح أحمد إبراهيم” و”محمد المكي إبراهيم” و”محجوب شريف” و”حميد” و”هاشم صديق” شعراً، وغنى “وردي” و”العطبراوي” و”أبو عركي البخيت” و”مصطفى سيد أحمد” و”النور الجيلاني” و”محمود عبد العزيز” بهذا التنوع.. غنوا لأنهم أدركوا قدرتهم على التأثير الإيجابي ونقل نبض تلك الثقافات دون تمييز وواحدة على أخرى.
} مسامرة أخيرة
{ يا سيدي
تعلم أن كان لنا مجد وضيعناه
بنيته أنت، وهدمناه
واليوم ها نحن
أجل يا سيدي
نرفل في سقطتنا العظيمة
كأننا شواهد قديمة
تعيش عمرها لكي
تؤرخ الهزيمة
لا جمر في عظامنا ولا رماد
لا ثلج لا سواد
لا الكفر كله ولا العبادة
الضعف والذلة عادة
يا سيدي
علمتنا الحب
فعلمنا تمرد الإرادة..
“الفيتوري”