قبيلة "السيد الوزير.." (4)
وقفت في مقالي السابق عند (حكومات الفريق إبراهيم عبود)، وتحدثت عن العسكريين الذين شكلوا المجلس العسكري الأعلى، وكان عددهم (7) وجميعهم كلف بوزارة.. أما المدنيون فقد احتفظ باثنين من السياسيين الذين كانوا في (حكومة عبد الله خليل) الأخيرة هما “زيادة عثمان أرباب” و”سانتينو دينق”، وأدخل من السياسيين الأستاذ “أحمد خير” المحامي للخارجية، ومن التكنوقراط الدكتور “محمد أحمد علي” وزيراً للصحة.. ثم حين حدث انقلاب الأميرالاي “عبد الرحيم شنان” والأميرالاي “محيي الدين أحمد عبد الله” قام بتشكيل حكومة جديدة خرج بمقتضاها سبعة من الوزراء، منهم ثلاثة من العسكريين هم اللواء “أحمد عبد الوهاب خير الله” والأميرالاي “أحمد عبد الله حامد” والأميرالاي “أحمد مجذوب البحاري”، إلى جانب اثنين من التكنوقراط هما د. “محمد أحمد علي” و”عبد الماجد أحمد”، وأدخل إلى الوزارة أربعة بدلاء عن العسكريين هم الأميرالاي “محيي الدين أحمد عبد الله” والأميرالاي “عبد الرحيم شنان” والأميرالاي “مقبول الأمين الحاج” واللواء “محمد نصر عثمان”، إلى جانب أربعة من المدنيين هم “أحمد علي زكي”، “سليمان حسين”، “مأمون بحيري” و”مكي المنا”.
نلاحظ أن عدد العسكريين في (حكومة عبود) الأولى بالإضافة لشخصه كانوا سبعة وزراء، إلى جانب ستة آخرين، ثلاثة منهم من السياسيين وثلاثة من التكنوقراط، بينما ارتفع عدد العسكريين في الحكومة الثانية إلى ثمانية وزراء بمن فيهم هو شخصياً، وارتفع عدد المدنيين إلى سبعة! وبذلك فإن الطابع العسكري قد ظل هو الطاغي في حكومتي عبود الأولى والثانية.
تحدثت في مقالي السابق عن أولئك النفر من الوزراء ذوي الرتب العسكرية، وسأحاول الكتابة في هذا المقال عن الوزراء المدنيين الذين كانوا في (وزارة عبود)، وهم “زيادة عثمان أرباب”، “أحمد خير”، د. “محمد أحمد علي”، “عبد الماجد أحمد”، “مأمون بحيري”، و”مكي المنا”.
غير أني قد نوّهت في مقالاتي السابقة أني أسقطت في سردي أسماء الوزراء الجنوبيين ليس إسقاطاً لدورهم وإنما لأني سأفرد لاحقاً مقالاً عنهم. لكني أرى وحتى ذلك المقال أن أثبت هنا حقيقة وهي أن الجنوبي السياسي “سانتينو دينق” كان (جوكر) السياسة وليس (الكوتشينة)، فقد ورثه الفريق “عبود” من (حكومة عبد الله خليل) الأخيرة، وكلمة و(يرث).. أو (وَرَث) هنا تحديداً أن الفريق عبود وجد اسماً لامعاً و(كرتاً) مهماً فاحتفظ به طوال فترة حكمه.
وجدير بالذكر، أننا سنجد هذا الرجل “سانتينو دينق” قد شغل منصب الوزير في عدة حقب وزارية!
أعود للحديث عن أولئك الوزراء المدنيين في حكومة الفريق عبود وهم:
{ السيد “عبد الماجد أحمد”.. ولد في أم درمان عام 1901م.. أكمل تعليمه بكلية غردون، والتحق بمصلحة المالية في عام 1918م، وظل يتدرج في وظائف الحكومة إلى أن أصبح نائب مدير مصلحة التجارة والاقتصاد.. اُنتخب عضواً بالمجلس التنفيذي للبلاد وكيلاً عن مصلحة التجارة والاقتصاد في عام 1944م، وتقاعد بالمعاش، ثم اُختير وزيراً للمالية والاقتصاد في (حكومة الفريق عبود)، وفي العام 1963م استقال من الوزارة.. وتم تعيينه عضواً بالمجلس المركزي.. (برلمان تلك الفترة).
{ الأستاذ “أحمد خير” المحامي.. ولد بفداسي الحيماب شمال ود مدني في 1903م.. تلقى تعليمه الأولي بمدرسة سنجة الأولية.. بعد تخرجه في كلية غردون، عمل بعض الوقت كاتباً في إدارة القضاء.. ثم التحق بمدرسة القانون 1935م.. أقام بود مدني وعمل بالمحاماة.. وظل يعمل بالسياسة وأنشأ نادي الخريجين بود مدني.. عند انقلاب الفريق “إبراهيم عبود” تم تعيينه وزيراً للخارجية ومستشاراً للمجلس الأعلى حتى ثورة أكتوبر.
{ السيد “مكي المنا”.. من قبيلة الجوامعة بشمال كردفان.. ولد بأم روابة.. درس بكلية غردون وتخرج مهندساً.. أحد أقطاب الحزب الوطني الاتحادي.. أول مدير لمصلحة المساحة.. عمل مديراً للبنك الزراعي وعُيّن وزيراً للزراعة والري 1961م، واستمر طوال فترة الفريق “عبود”.. أنشأ وأشرف على بناء خزان خشم القربة.. أعدّ مذكرات تحكي مسيرته ولم تُنشر.. له أبناء نجباء ذوو تعليم رفيع.. نرجو أن ينشروا هذه المذكرات.
{ السيد “مأمون بحيري”.. سليل العترة السلطانية بدارفور.. ولد عام 1925م بأم روابة.. بدأ باكراً في التعليم بكلية فيكتوريا بالإسكندرية، ثم درس بكلية أكسفورد، حيث درس الاقتصاد والفلسفة والعلوم السياسية.. أول محافظ لبنك السودان.. تم تعيينه وزيراً للمالية في عهد الفريق “عبود” ثم أيضاً أصبح وزيراً للمالية في (حكومة نميري).
رجل نال احترام كل من عرفه، ولهذا تم تخليده بـ (مركز مأمون بحيري للدراسات والبحوث الاقتصادية).
{ د. “محمد أحمد علي”.. ولد بوادي حلفا في 1908م.. بعد إكمال دراسته بكلية غردون التحق بمدرسة كتشنر الطبية في يناير 1933م، وأصبح طبيباً بالمصلحة الطبية.. تخصص في أمراض المناطق الحارة بإنجلترا.. عمل طبيباً بعطبرة، سنار، وحلفا ثم بورتسودان.. اُختير وزيراً للصحة في نوفمبر 1958م.. توفي في 1962م.. وعلى الرغم من أن (حكومة الفريق عبود) هي التي نفّذت ترحيل أبناء حلفا وهو وزير فيها فقد أوصى أن يدفن في حلفا!
بهذا يكتمل التعريف بالوزراء في المرحلة من 17 نوفمبر 1958م، وحتى 21 أكتوبر 1964م.. وعلى الرغم من أن هذه الحقبة انتهت بثورة شعبية هي ثورة أكتوبر 1964م، التي انطلقت من جامعة الخرطوم، وكنت يومها شاهداً فيها وليس فاعلاً مؤثراً، لأنني كنت في السنة الأولى وشاركت في بعض أحداثها، إلا أنني الآن وأنا أبعد عن تلك الذكرى لعقود من الزمان، وحتى أكون منصفاً، فإن التقييم العادل لهذه الحقبة يقتضي أن نعيد التأمل ونستقصي الحقائق ونبسط أمامنا أوراق تلك الفترة لنحكم عليها بما تستحق من تقدير.. وهو أمر لا يعني مطلقاً أن ننقص من جلال وأثر تلك الثورة!!
هذا الأمر يعني أن نفرد دراسة عميقة لفترة حكم الفريق “عبود” الذي قال بعض الناس يوم مات (ضيعناك وضعنا)، وكان شعار فترة حكمه.. (احكموا علينا بأعمالنا)!!
كانت قضية الجنوب قد تقيّح جرحها وأصابه (الناسور)، وهي عبارة أوحت بها أغنية قديمة في غناء حقيبة الفن (الجرحُو نُوْسَرْ بَيَّ.. غوّر في الضمير في قلبي خَلَفْ الكَيّ..).
فقد (نُوْسَرْ) الجرح وأصبح نازفاً وموجعاً.. وأخذت القضية تمد لسانها في كل يوم والكر والفر والإخفاق والنجاح.. والموت والدمار.. ولا يلوح في الأفق أمل أو مجرد خيط ضوء في فم النفق أو يلوح في منتهاه.. مفازة سياسية ليس لعبورها من سبيل.. إما أن يظل المتحدث الفصيح فيها المدفع والدبابة.. وإما أن تسمع الأذن همس الحوار.. وهو (حوار طرشان).
وحين دخلنا جامعة الخرطوم في يوليو 1964م، وجدنا كل حوائط الجامعة ممتلئة بالقماش العريض، وفيه بالألوان السبعة للطيف عبارات الترحيب بالطلاب الجدد.. و(يتفنن) كل اتجاه في عرض تلك التحايا وعبارات الترحيب.. ثم شعارات منتقاة لتجذب الطلاب!!
الجبهة الديمقراطية، وهي جبهة تضم رابطة الطلاب الشيوعيين، (رَطَش) هذا اختصار حروفها، وكل الاشتراكيين من اليسار العريض.. الاتجاه الإسلامي، وهو تنظيم يضم كل الإسلام السياسي والديني.. حزب المؤتمر، وهو يضم وسط الاشتراكيين.. الجبهة الاشتراكية، وهي تضم أيضاً يسار الديمقراطية.. القوميون العرب، وهم مجموعة الناصريين.. وكان “جمال عبد الناصر” يومها الهرم الرابع.. والأحزاب التقليدية، الحزب الاتحادي وحزب الأمة وبعض الجمهوريين.
كانت كل تلك التيارات والاتجاهات ذات صلة يومية بقضايا الناس وقضايا الوطن، رغم أن قضايا الطلاب كانت تأخذ حيزاً كبيراً في نشاطهم.. لهذا فإن الشعارات كانت تفصح عن كل تلك الهموم باللون الأحمر في القماش الأبيض المشنوق على حوائط وجدران وأشجار الجامعة.
ومنها تُطل قضية الجنوب بوجه كالح شديد الهتاف!!
دخلنا الجامعة، واعتدنا غرفها النظيفة الواسعة، وطعامها الذي ما كان في تصورنا أن نلقاه في داخلية!!
(الداخلية) التي اعتدناها في المرحلة الوسطى والمرحلة الثانوية هي الداخلية التي طعامها.. الفول.. العدس.. القرع.. الأسود (البراطيش) الفاصوليا وأحياناً البامبي، وخبزها مليء ببعض (الحَصَاص) وسوس الدقيق.. ثم الشاي الأحمر، وكأنك في بيت عزاء لفقراء المدن!!
وسبحان مغيّر أحوال (الداخليات) من إدمان القرع والعدس إلى وجبة يزغرد صحنها (الصيني) بـ (كبدة وبيض).. و(سمك فرايت) وبطاطا مقلية ومحمرة لتكون مع شرائح لحم ضاني لم يأكل قصباً ولا قشاً وإنما (أمبازاً) وبرسيماً طازجاً.. وجفان مليئة باللبن الشديد الدسم.. ثم (باسطة) تبسط العسل والرهافة من حلوى “بابا كوستا” (هذا كان حلوانياً في التركية السابقة – أقصد أيامنا – في شارع الجمهورية).. ثم إن (الفول) يزورنا فقط لنعلم أنه موجود، ولكي لا نكسر (خاطره) نأخذ منه (لقمة أو اتنين)!!
سرقني حديث الطعام.. ولست (شرفاناً) ولا من بيت تشكو فئرانه رقة حال.. لكني وغيري نعترف أن هذا الطعام ما كان يوجد في بيوتنا إلا في (نفاس) أو (عرس).. وربما في (الرحمتات)، هي (يوم التوسعة في الجمعة اليتيمة)- شغلتني (الصُفرة) قاعة الطعام.. عن قاعات المحاضرات والمناظرات بين الأحزاب وليالي السمر.. والليالي السياسية والندوات.. فقد كانت الجامعة يومها تمور بنشاط فوّار جُل نشاطه قضايا الوطن.. وكان الاتحاد – اتحاد طلاب الجامعة – تشكّل لجنته التنفيذية كل ألوان الطيف السياسي بسبب إعمال نظام التمثيل النسبي الذي يتيح فرصة التمثيل لمن يحصد فقط (3%) من الأصوات..
ولكن.. يا حسرة، أُلغي هذا النظام وأصبح نظام الانتخابات إقصائياً تفوز به قائمة واحدة.
كنا وكان كل الطلاب يقضون فترة المساء الباكرة من عصر متأخر في مكتبة الجامعة، ويعودون بعد الساعة الثامنة لتناول وجبة العشاء.. يومها كان قد أعلن عن ندوة في (البَرَكس) مجمع داخليات الجامعة، والندوة عن قضية الجنوب.. تناولنا العشاء سريعاً وذهبنا لمكان الندوة.. وبدأت الندوة وسارت بهدوء رغم (سخونة) الحديث.. ثم فجأة بدأ حديث (البومبان) البذيء.. ثم فجأة تحدث الرصاص الحي.. ثم فجأة علا صراخ.. ثم أعلن الصياح عن مقتل شهيد.. ثم اختنق الليل بالوجيب والعويل والهتاف.
استيقظت الخرطوم في (جنح الدجى) تشيّع الشهيد.. ثم بدأت الساعات تنطوي ولما تكمل دورة الساعة الخمسين دقيقة..
ثم أعلن الفريق “عبود” حل المجلس العسكري!!
ثم علا النشيد.. (أصبح الصبح..)، وانسدلت القيود.. (جَدَلة عرس) في الأيادي..
ثم تكوّنت حكومة أكتوبر الأولى.. وأطل الناس الوسيم الوقور “سر الختم الخليفة” يعلن تشكيلة الوزارة..
أواصل..