أخبار

خربشات

(1)

لم يكن إلا لقاء وافترقنا
كالفراشات على نار الهوى جئنا إليها واحترقنا..

لو لم يكتب “الجيلي عبد المنعم” الشاعر والأديب المثقف المثقل بجراحات الهوى وعذابات الحب الوسيم، لكفى هذا الشاعر المتفرد مفردة.. وعبارة.. وفكرة.. وخيالات وريقة.. شكلت انعطافاً في مسار الأغنية السودانية.. ومن غير “محمد وردي” من مطربي السودان يملك براعة في أداء أشعار وسيمة.. غنية بالشجن.
إذا كان الناقد والأديب “عمر قدور” قد سما بزميلنا الصحافي “النعمان على الله” إلى مقام متفرد حينما وصف بيت الشعر الذي شدا به “إبراهيم عوض” في أغنية (ما قادر أبوح وما قادر أصرح).. وقال “قدور” : إن “النعمان على الله” كتب أخطر بيت شطر من قصيدة مغناة حينما قال..
بعت العمر كله عشانك
وباقي العمر على دين..
فإن “الجيلي عبد المنعم” هو من شكل من حروف مطرزة بالعطر أيقونة لزمان ماضٍ، كيف لا و”وردي” الذي غنى لـ”صلاح أحمد إبراهيم” الطير المهاجر، لم يجد نصاً مشحوناً بالتطريب
و”الجيلي” يرسم بريشته:
والذي أبدع فيك الحسن
إشراقاً وطهراً..
لا تدعني للأسى يدفعني مداً وجذراً
أثقلت كفي الضراعات وما تقبل عذرا
هل في السودان من المغنين من يشدو بهذا الشعر المثقل بالآهات والذي يفيض عذوبة كنهر النيل.. ويتمطى في أحياء أم درمان القديمة بنثر التبر في الفضاء.. وقد أعجزت كلمات “الجيلي عبد المنعم” (بغبغاوات) هذا الزمان من تريد أغنية مرحباً بالشوق.. وهل لهؤلاء براعة تجعلهم يرددون
يا لقلبي عاد من بعد النوى يطوي الشراع
بالهوى يبعث في الروح حنيناً واندفاع
مرحباً يا شوق أغمرني شجوناً والتياع
ووداعاً للذي شيدته بين ضلوعي فتداعى..
(2)
معرض الخرطوم الدولي للكتاب يعبر بصدوق على ما نحن فيه من جفاف ثقافي وتصحر إبداعي وضمور في المناشط العامة.. وسطوة المال واللهث وراء الدولار والجنيه بأي ثمن.. معارض الكتاب في كل أركان الدنيا هي مواسم ثقافية ومنتديات حرة.. وساحات للفكر.. ومنابر للشعراء والأدباء.. إلا في السودان.. وخاصة في الدورة الحالية التي تشهد فقراً شديداً في الكتاب الثقافي وعزوفاً من القراء.. إلا بضعة مثقفين ورواد هاربين من جحيم الحياة العامة إلى فضاء ساحة معرض الخرطوم بحثاً عن عنوان جديد.. ومن بين أطنان الورق التي تم شحنها من بلاد قريبة وبعيدة بحثاً عن الكسب المادي.. لا سعياً لنشر المعرفة.. دور كبيرة في الوطن العربي وفي العالم قاطعت دورة معرض الخرطوم الدولي للكتاب.. وأفسحت الساحة لوراقين و(أكشاك) صغيرة (تعتاش) على الكتاب المغشوش.. والروايات القديمة وكتب السيرة الصفراء.. وكتب أخرى من شاكلة كيف تصبح مليارديراً في سنة واحدة!! وكيف تتعلم اللغة الإنجليزية في أسبوع.. وسيدة المطبخ العربي الحديث.. والمرشد في طبيخ البامية.. ومائة يوم حول العالم، ورجال وطأت أقدامهم سطح البحر.. وروايات مثل ذاكرة الجسد.. والكرنك.. وقصص ألف ليلة وليلة وآلاف الكتب التعليمية لتلبية احتياجات الطالب الجامعي الأكاديمية بأسعار لا تتناسب وقدرات الطلاب المحدودة.. الطواف في معرض الكتاب.. ينقلك إلى مكتبات سودانية ودور نشر مغمورة.. وتغيب دور النشر المحترمة مثل الدار السودانية للكتب للشيخ “عبد الرحيم مكاوي” ، وتغيب دار عزة، وحضور على استحياء لمكتبات مثل مركز “عبد الكريم ميرغني” الثقافي، وبحثت عن دار مدارك لصاحبها الشاعر “الياس فتح الرحمن” ولم أجدها.. وبحثت عربياً عن مطبوعات أكبر مكتبة إسلامية في العالم (العبيكان) ولم تحضر لمعرض الوزير الجديد “عمر سليمان”.. وسألت المشرفين على المعرض من موظفي وزارة الثقافة عن جناح مكتبة “الساقي” فأنكروا جميعاً معرفتهم بدار اسمها “الساقي”.. لم تحضر دار الشروق المصرية.. ولا دار العلم للملايين.. ولا دار المعرفة.. ولا مكتبة القيروان التونسية.. ولكن معرض الخرطوم يفيض بالوراقيين.. والرأسمالية.. والمستثمرين.. والفوضى في التنظيم.. والسماح للدور بعرض كتب دور أخرى.. وبعض الدور تبيع الكتاب المغشوش.. أما المكتبات السودانية التي تشترك في المعرض فحدث ولا حرج فقر مدقع.. حتى بلغ الأمر بإحدى الجامعات السودانية بعد أن دفعت إيجار (الكشك) لعرض مطبوعاتها لم تجد ما تعرضه.. وتمدد أحد المصريين في الكشك المجاور يعرض بضاعته.. وعلى قلة المعروض من الكُتب الحديثة إلا أن هناك ارتفاعاً جنونياً في أسعار بعض الكُتب.. زرت المركز الصحافي لمعرض الخرطوم ووجدت موظفين حائرين ينتظرون وجبة الإفطار.. والانصراف نهاية اليوم، أما إذا سألت عن البرنامج المصاحب.. فلن تجد غير شذرات من التكريمات.. وتقديم بعض لشعراء.. وبالطبع يغيب عن معرض الخرطوم شعراء من خارج الحدود وأدباء من بلدان أخرى.. ووزارة الثقافة المنظمة للمعرض حالها.. يغني عن السؤال عنها.
(3)
في الحادي والعشرين من أكتوبر.. غابت عن الإذاعة القومية الرؤية التاريخية لهذه الأمة.. ولم تردد في ذلك اليوم مع”ود المكي” أنشودته الخالدة:
اسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيماناً وبشرا
وعلى الغابة والصحراء يلتف وشاحاً
وبأيدينا توهجت ضياءً وسلاحاً
فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا
سندق الصخر
حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرا
ونرود المجد
حتى يحفظ الدهر لنا اسماً وذكرا
كانت أكتوبر ثورة شعبية اقتلعت نظام حكم عسكري قرر أن يقهر الجنوب بفوهة البندقية ويكبت الحريات ويكتم أنفاس الناس.. فخرجت جموع الشعب تهتف بسقوطه.. فاختار التنحي عن السلطة دون إراقة دماء الشعب الثائر.. والشعوب التي تتذوق الحرية لن تنساها كما يقول المفكر الإسلامي “محمد المختار الشنقيطي”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية