قبيلة (السيد الوزير..) (2)
في مقالي السابق وعدت القارئ أني سأوقظ في ذاكرة الناس بعضاً من أسماء هذه القبيلة التي استوطنت جهاز الدولة لفترة من الزمان.. ثم رحلوا إلى أحياء الناس وقد غادروا هذا المنصب الذي تسبقه عبارة (السيد الوزير) وقد بَعُدت عنهم الأضواء وأغفل ذكرهم ركن الأنباء.. ونسيهم أقرب الأصدقاء.. واحتوتهم غرف البيوت.. فإذا ما ضاقت الغرفة حمل كرسيه وجلس أمام منزله.. يراقب خلق الله.. هذا إذا ما سمحت له الصحة أن يفعل ذلك!!
ساقني الأخ الصديق “أبو بكر يحيى الفضلي” بعد أن حدثني أن (فلان الفلاني).. القطب المعروف في الحزب الكبير والوزير في حكومات عدة.. حكومات أكتوبر والحكومة الائتلافية الأولى والثانية ومستشار الرئيس “نميري”.. مريض جداً وهو لا يجد ثمن الدواء وليس معه أحد إلا زوجته الوفية، وقد هجره الحزب الكبير وكذلك زملاء العمر.. وهو في حاجة ماسة للعون..
أحزنني حديث صديقي، فذهبنا معاً ولمست بيدي حاله المحزن وحاجته الماسة!! ولن أذكر ما فعلنا.. لكني عرفت يومها معنى أن ينسى الناس أعزّ الناس والذين ساهموا في صنع استقلال هذا الوطن!!
الآن وقد أعدت قراءة أسماء أفراد هذه القبيلة، وقد زادتني مراجعة هذه القراءة يقيناً كبيراً أن بعض أفراد هذه القبيلة انطبق عليهم المثل.. (دخل القش.. ما قال كش) ويعنون (الظل)، فهكذا دخل الوزارة منهم من لم يحس به الناس يوم دخل وزيراً ويوم خرج معفياً مقهوراً بذلك اللفظ.. ومنهم أرسى في الوزارة عمائر من الإنجاز وحسن الإدارة.
يسوقني هذا الحديث إلى أن أقول ومعي احترامي الأكيد لكل أولئك الوزراء، إن مواصفات الوزير غير محددة وليس لها متطلبات مفصّلة.. فقد كانت إبان الحركة الوطنية تعني السياسي المحض المتفرّغ للعمل السياسي، والقائد الحزبي والبرلماني المسنود بدائرة مقفولة له وحده تُزكيه، أو أغلبية كاسحة تأتي به، ولهذا نجد في الحكومات الوطنية الخمس التي بدأت في (9/1/1954م وحتى 18/11/1958م) أن الوزارات كانت حكراً لمجموعة محددة من الحزب صاحب الأغلبية البرلمانية، فمثلاً في حكومة السيد “إسماعيل الأزهري” الأولى كانت الأغلبية للحزب الوطني الاتحادي، لهذا كانت التشكيلة من العماليق.. “حماد توفيق”، “محمد نور الدين”، “إبراهيم المفتي”، “محمد أمين السيد”، “خلف الله خالد”، “علي عبد الرحمن”، “ميرغني حمزة”، “يحيى الفضلي”، “أحمد جلي”، “محمد أحمد المرضي”، “مدثر البوشي”، “حسن عوض الله”، “إبراهيم المحلاوي”.. وظل نفس هؤلاء في الحكومة الوطنية الثانية (16/11/1955م)، التي مكثت ثلاثة أشهر فقط ودخل معهم السيد “مبارك زروق”.
واحتفظت بهم الحكومة الثالثة (2/2/1956- 4/7/1956م)، التي استمرت لخمسة أشهر فقط، وهي حكومة ائتلافية بين الحزبين الكبيرين (الوطني الاتحادي) و(الأمة)، حيث انضم للوزارة السادة: “عبد الله خليل”، “زيادة عثمان أرباب”، “يوسف العجب”.. أما الحكومة الرابعة (7/7/1956- 27/3/1958م)، وهي حكومة حزب (الأمة) وحزب (الشعب)، حيث أصبح السيد “عبد الله خليل” رئيس الوزراء، ودخل السيد “محمد أحمد محجوب”، و”مأمون حسين شريف”، و”محمد أحمد أبو سن”، وأمين التوم”.
ثم جاءت الحكومة الخامسة (27/3/1958- 18/11/1958م)، حيث ظل “عبد الله خليل”، ودخل الوزارة السيد “عبد الله عبد الرحمن نقد الله”، و”عبد الرحمن علي طه”.
ملحوظة: (أسقطت عمداً الوزراء الجنوبيين الذين كانوا في تلك الوزارات لأنهم لا يعنونني في ما أريد شرحه في هذه المقالات).
في هذه الفترة من (9/1/1954م – 18/11/1958م)، نجد أن عدد الوزراء ظل يدور على (27) وزيراً تكرر، مثلاً السادة: “إبراهيم المفتي”، “علي عبد الرحمن”، “حماد توفيق”، “محمد نور الدين”، “ميرغني حمزة”، “حسن عوض الله”، “مدثر البوشي”، “مبارك زروق”، “يحيى الفضلي”، “محمد أحمد محجوب”.. وكان هذا التداول طبيعياً بحكم الوظيفة السياسية والوضع الحزبي والتفرغ للسياسة كوظيفة ومهنة.. لكن الحقيقة أيضاً تقتضي أن نقول إن كل أولئك الوزراء بأي مقياس نريد- لوظيفة الوزير- كانوا يرجّحون كفة أن يكونوا وزراء.
دعني في هذه السياحة أن أقف تحديداً في هذا المقال عند هذه الوجوه، غير أني أسوق في هذا الاستعراض بضع ملاحظات تبدأ من مهن هؤلاء الوزراء، فنجد أن مهنة المحاماة أو المهن القانونية قد استأثرت بالسهم العالي وهم: “إبراهيم المفتي”، “علي عبد الرحمن الأمين”، “محمد أحمد المرضي”، “مدثر البوشي” ، “مبارك زروق”، “زيادة عثمان أرباب” مثلاً.
ونجد الاقتصاديين قد تمثلوا بـ”إبراهيم أحمد”، و”حماد توفيق”، و”إبراهيم المحلاوي”.. أما زعماء القبائل فقد مثلهم السيد “يوسف العجب”، و”محمد أحمد أبو سن”.. والعسكريون منهم “عبد الله بك خليل”، و”خلف الله خالد”.
أما من حيث الأعمار فكلهم حين تولى الوزارة كان قد جاوز الخمسين من العمر، وهو عمر ينتج الحكمة ويكبح فرامل الانفلات، وربما يكمّم الأفواه عن الكلام غير المباح!!
{ الزعيم “الأزهري” لا يحتاج مني لكثير حديث، فهو في جبين هذه الأمة شمس وبدر، وقد استقر في ضمير الناس إنساناً مثالاً.. نظيف اليد والقلب والكلمة.
{ “عبد الله بك خليل” ضابط عظيم.. صارم في القيادة، حي في المؤانسة والصحبة.. استطاع أن يكون مثالاً للضابط الحاذق، للضبط والربط العسكري، والسياسي القادر على وزن الأمور برزانة الحلفاويين وهم قد تعلموا من نهر النيل العطاء والهدوء عند ضفة النهر!! وكذلك البكور في العمل كما يسق الفجراوي مطلع الفجر.. نظيف اليد.. منزله بأم درمان شاهد على الزهد الكامل!!
{ “مبارك زروق” المحامي الأنيق والبليغ والذكي العبارة والعطر.. وسيم لدرجة أن هامت بحسنه فتيات السودان فتغنين صراحة بهذا العشق (زولاً سنونو بروق وفي محكمة زروق).. كان في الليالي السياسية الفقرة التي تجتاح صدور الناس وتلهب حناجرهم بالهتاف الطويل النفس.. خرج من الدنيا ببيت لم يتم بناؤه.. لكنه بنى في ضمير الناس عمائر من حسن المثال.
{ “محمد أحمد محجوب”.. المهندس.. وكذلك المحامي .. الشاعر المرهف والسياسي الذكي.. المثقف العميق المعرفة والراسخ في البلاغة والمرافعة.. والخطابة.. جليس الأدباء والمفكرين.. صاحب كتاب (موت دنيا) مع قريبه وصديقه د. “محمد عبد الحليم”.. عملاقان التقيا في كتاب أراد أن يحيي موات زمان هما حياته.. حين يكتب الشعر تنسى أنه السياسي.. (السياسة تقتل الإبداع وتبدد مَلكة الشعر).. إلا أنه استعصى عليها.. مات حزيناً بعد أن أودع كتابه (الديمقراطية في الميزان) جزءاً من ذلك الحزن.. ثم بث حزنه الأكبر في قضية سقوط الأندلس في (الفردوس المفقود)، و(قصة قلب).
{ “يحيى الفضلي”.. (الدينمو) كما كانت تصفه جماهير (الوطني الاتحادي).. حين يخاطب الجماهير يسلب منهم خاصية الأذن التي تسمع فيسمعون من مسام الجسم الصوت!! فيشعل فيهم برقاً ورعداً وبَرَداً!! خرج من الدنيا بغير سكن ولا أرض.. ولم يسخط قط من فقدان مال أو سكن أو وظيفة..
{ “محمد نور الدين”.. الرجل الصلب المعتقد في قضية وحدة وادي النيل، ابن حلفا البار والزاهد في الدنيا.. اختار أن يسكن بين غمار الناس في بيوت الشعب (الشعبية)، وما يزال هذا منزله ومنزل أبنائه.. أحب مصر كما يحب حلفا والسودان.. وهو حب ما ارتجى مقابلاً ولم يلق بعد إحسانا ًمِن مَن أحب.
{ “علي عبد الرحمن الأمين”.. سليل علماء نجباء.. هم (آل الضرير).. سلالة توارثوا من الدنيا الزهد فيها، واتجهوا للتأصيل والتحصيل في الفقه والعلم والدين.. قاضٍ راسخ الكف.. لا يعرف كفه تطفيفاً أو اكتيالاً بغير حق.. شجاع كأنه السيف في يد تعرف كيف تكسر العظم المكين.. جريء في قول الحق ولو دفع في ذلك ثمن حريته الشخصية التي جعلته حبيس السجن مرات.. ثم هو الفقير الغني.. غنى من يعدُّ للآخرة ما ينجي لاجتياز السراط يوم الآزفة.
{ “حماد توفيق”.. وزير المالية.. في زمان كانت فيه خزينة الدولة لم تعرف بعد سطوة الدولار ولا منطقة (اليورو).. ميزانية خفيفة الوزن جل ما لها يأتي من جباية المكوث والضرائب على الأطيان.. وفصلها الأول هو أعرض الفصول مساحة.. والأمر المالي يحتاج (لحاوي) يصنع من أوراق (الفلوسكاب) جنيهات ومع ذلك لم تشهد الميزانية استدانة ولا تعديلاً.. شوهد يركب البصات في انتقاله من الخرطوم لأحيائها ولا يملك عربة!!
{ “ميرغني حمزة”.. مهندس موهوب.. في وجهه حكاية الشلوخ في ذلك العهد.. وجه يجيد حبس الوجوم وصوت عميق الأثر.. جعل وزارة الري تعيد موج الفيضان وتحسب لزمان (التحاريق) أمتار الماء المطلوب.. ثم هو صاحب البيت الحكومي المعروف “ميرغني حمزة تايب Taybe” مثل “جاكسون تايب”.
{ “زيادة عثمان أرباب”.. محامٍ من أبكار المحامين.. حين كان وزيراً للتربية والتعليم في الحكومة الثالثة، التي استمرت فقط لثلاثة أشهر، لم تمكنه الأيام ليطبّق ما أراد أن يفعل في تحريك قضية توسيع مواعين التعليم، ثم أصبح وزيراً للعدل في الحكومة الرابعة، ثم في الحكومة الخامسة التي انتهت بقيام ثورة الفريق “عبود”.. وقام بعمل كبير في قضية التشريع.. عُرف عنه أنه كان من بُناة الحزب والأقرب لرئيس الحزب.
{ “أمين التوم”.. القطب الكبير في حزب الأمة.. الرجل الرزين.. الصبوح الوجه.. الأنيق الطلعة.. العميق الثقافة.. الهادئ الطبع.. صاحب الحكمة والكلمة النظيفة، الملتزم لدرجة الانضباط الحديدي.. خلوق بين الناس، صادق فيما يقول.. أعطى الوزارة ومنصب الوزير الوزن الثقيل..
{ “إبراهيم أحمد”.. ركن يماني في بيت حزب (الأمة).. من أهل حضارة (كوش) وسليل رماة الحدق.. اقتصادي متخصص.. كان وزيراً للمالية.. لكنه كان في الحزب مستودع الحكمة.. قليل الكلام.. يتحدث بلغة الأرقام بلسان الحاسبات وليس بلسان السياسي الذي يقتحم الأرقام (يضربها في 10) كما يفعل بعض الساسة!!
أعرف أني لم التق بهؤلاء شخصياً، لكني عشت زماناً طويلاً اقرأ وأتابع.. وقد شهدت بعضهم يتحدث في أيام أكتوبر وما تلاها من أيام، وحين اكتب عنهم بهذا الاقتضاب المخلّ.. وهي دعوة للناس أن يتموا ما بدأت من سطور!!
هذه عينة من حكومات الفترة الأولى.. ما أسقطت الآخرين!! بقصد ولكني سأكتب في مقال يأتي عن “يوسف العجب”، “محمد أحمد أبو سن”، “أحمد جلي”، “مأمون حسين شريف”، “خلف الله خالد”، “عبد الله عبد الرحمن نقد الله” “محمد أمين السيد” و”عبد الرحمن علي طه”..
فاصل وأواصل