خربشات
(1)
نزلنا بغداد في ذلك الصباح والمدينة يخنقها الغبار العالق.. ونهر دجلة انحسرت مياءه وكاد أن يجف.. الصخب والضوضاء.. في قلب المدينة التي تقدس الكلمة وتحتفي بالأدب.. ولا تعرف التميز ما بين شعراء الشمال الأفريقي وشعراء الشمال وشعراء وادي النيل.. ما كانت بغداد بوعيها (عنصرية) مثل عرب الخليج ولا هي حبيسة تاريخها القديم.. وضعت في شوارع نصباً تذكارياً للشاعر “التجاني يوسف بشير” في الوقت الذي أهملت الخرطوم حتى طباعة دواوينه.. وحذفت قصيدته الوحيدة من مقررات المرحلة المتوسطة.. بغداد مدينة تحتفي بنفسها وتنسج خيوط التلاقي بين المشرق العربي والمغرب العربي، في بغداد نصب تذكاري للشاعر التونسي “أبو القاسم الشابي” ونصباً لـ”أحمد شوقي” وتمثالاً لـ”نزار قباني”.. وآخر لـ”فدوى طوقان”.. وشارع باسم “أبو نواس”.. ومكتبة لـ”أبي الطيب المتنبئ”.. ومهرجان سنوي في بغداد يعيد للشعر مملكته وللكلمة سحرها.. شباب حزب البعث العربي الاشتراكي يستقبلون الوفود القادمة من أقطار عديدة لحضور استفتاء شعبي أقامه الرئيس “صدام حسين” لإضفاء شرعية على أفعاله وسياساته التي وضعت العراق في مواجهة مع الغرب.. كان السودان بسحاباته يقف دعماً وسنداً لبغداد في محنتها!! وبغداد أرض شعب ليست حارة أو زقاق مثل بعض بلدان الخليج ترفض الانكسار وترفض بيع قضيتها بأي ثمن وتقاوم الإغراءات، وفي فندق وسط المدينة سقط اسمه من الذاكرة ولم يسقط من كراسة تغطيات تعلمت من أستاذي “محمود قلندر” وأستاذ “راجي محمد محمود” تدوين يوميات صحافي زائر لبلدة داخلية أو بلداً خارجياً.. توافد على الفندق “علي الريح السنهوري” شاب على قدر من الرقة والصرامة.. مثقف واقعي يحترمه الآخرون.. حتى “بدر الدين مدثر” الذي كان مثل كبار المسؤولين العراقيين يتحدث لـ”علي الريح السنهوري” بصوت خافت.. وقيل لنا حينذاك في دوائر السُلطة أن “علي الريح السنهوري” هو العقل المدبر.. لانقلاب 28 /رمضان، ولكنه فلت ونجا من مقصلة الموت التي حصدت أرواح الضباط البعثيين.. كان الوفد الصحافي يضم نجوماً مثل “كمال حسن بخيت” و”إدريس الدومة” اللاجئ الآن بالمملكة المتحدة، وهو من بين الصحافيين الإسلاميين (الفارين) من سفينة الإنقاذ خوفاً من غرقها.. ومن الصحافيين العروبيين “ربيع حامد” وآخرين.. وحينها كان الملحق الثقافي العراقي “أمجد” شاعراً ينشط في المنابر على قلتها بينما الملحقين الثقافيين من بقية البلدان العربية ضباط مخابرات في ثياب مثقفين.. وفي ليالي الخرطوم ينشد “أمجد” أشعاراً تمجد ثبات العراق وصموده في وجه الحصار، وينشد سفير دولة فلسطين الراحل “أبو رجائي” أشعار الثورة الفلسطينية وكلاهما أي “أبو رجائي” و”أمجد” من الشعراء المجيدين.
(2)
في ذلك المساء أخذنا “كمال حسن بخيت” إلى سوق الكرخ في وسط بغداد التي قيل لنا إنها أصبحت الآن منطقة خضراء (ترتع) فيها خيول المستعمرين الأمريكان.. وهناك مقهى شهير يقدم المشروبات العراقية عصير العنب.. وعصير البلح.. وعصير المانجو.. ويُسمى المقهى باسم صاحبه “الحاج زبالة” نعم الزبالة في السودان هي روث الحمير والأبقار ويستخدم كطلاء للبيوت الطينية القديمة.. قبل دخول المقهى استبقنا العامل ببث بتبديل شريط الكاسيت لـ”عبد الحليم حافظ”.. بشريط كاسيت لـ”محمد وردي” وأخذ يردد رائعة “محجوب شريف”.
أنت منك لا بداية
عرفت منك ولا نهاية
مرة أسرح ومرة أفرح
ومرة تغلبني القراية
لمن أكتب لك وداعاً
قلبي ينزف في الدواية..
بعض من القهوة.. والمشروبات الباردة والعاملون بالمقهى في لطف وأدب، ونساء العراق الباسقات يبتسمن ابتسامة الرضا في وجه الزائر الغريب.. أنت لا تشعر في بغداد بالغربة.. آلاف السودانيين في الأسواق والمتاجر والمزارع ينتشرون في كل مكان.. والعراق منذ سبعينيات القرن الماضي تفتح أبواب جامعاتها للسودانيين، حزب البعث يقدم بعضهم والبعض الآخر من عامة الطلاب.. لا يدقق البعثيون كثيراً في هويات الطلاب مثل أبناء عمومتهم الشيوعيين الذين كانوا يفرضون قيوداً صارمة على الدارسين في الجامعات الروسية.. ثلاث ليالٍ ونحن نتفرس وجه بغداد.. في فندق الرشيد تم وضع صورة الرئيس الأمريكي “بوش” على الأرضية المؤدية لمصعد الفندق.. حيث يطأ الزوار بأحذيتهم صورة “بوش” قبل الصعود.. بما في ذلك الوفود الأمريكية التي تزور بغداد بزعم أنهم أحرار الولايات المتحدة.. ومن غرائب وعجائب علاقة بغداد بالخرطوم أن “صدام حسين” وحكومته من الداعمين لثورة الإنقاذ التي وقفت مع “صدام”، ولكن البعثيين السودانيين كانوا المعارضين الأشرس في الساحة، وبينهم والإنقاذ قطيعة نفسية منذ انقلاب رمضان وحتى اليوم، رغم مشاركة بعض البعثيين في سُلطة الإنقاذ منهم “تيسير مدثر” شقيق الراحل “بدر الدين” و”عمر مهاجر” المثقف.. والباحث الأكاديمي و”التجاني حسين دفع السيد” شاعر الانتفاضة الذي كان تحتفي بأشعاره صحيفة (الهدف).. وبعثيين بعدد الحصى، وقيل الكثير عن علاقة البعثيين ببعض قادة الإنقاذ، ولكن “كمال حسن بخيت” مثلاً ضحى بكل وجوده في الوسط اليساري العروبي من أجل الرئيس “عمر البشير” ونافح “كمال بخيت” عن الرئيس “البشير” خاصة في أيام الانشقاق الشهير ومحاولة “الترابي” تجريد “البشير” من السُلطة.. استل “كمال بخيت” سيفه وقاتل إلى جانب ابن عمه كما يقاتل اليوم شقيق “كمال” الموهوب الآخر “المعز عمر بخيت”.
(3)
تطوف بالذاكرة أيام بغداد.. المدينة التي اغتالتها الأيادي العربية الآثمة وبموتها ما عادت للعرب كبرياء ولا شموخ ولا عزة.. بغداد هي تاريخ لم يبدأ مع “صدام حسين”.. ولا الرفاق البعثيين الذين صمدوا ببسالة في وجه الحصار.. وحصدت أرواحهم بنادق المستعمرين، ولكن بغداد هي منارة العرب ومجدهم الذي مات.. وعزتهم التي داست عليها خيول الطغاة الطامعين.. شكراً لبغداد الجميلة التي حملتنا نحن السودانيين بين كفيها حتى سقطت ولكنها ستنهض يوماً مهما طال الاستعمار والاحتلال، فالصباح سيأتي..
وكل (جمعة) والجميع بخير.