بالخبز وحده!!
مرة أخرى يحضر في مجالس السودانيين الكاتب المغربي العالمي “محمد شكري”، وترقص حروف روايته ذائعة الصيت في صفوف الواقفين حيارى أمام المخابز والواقفات حسرة على الحال ينتظرن أن يجود (الفران) بقطعة خبز في شهر أغسطس منتصف خريف عام الرمادة السوداني، الذي حل علينا منذ يناير الماضي وتمر أيامه ببطء شديد.. وفي كل يوم وساعة تضاف سلعة أو خدمة لقائمة الشح والندرة من وقود السيارات إلى الطائرات، وأخيراً أطلت أزمة الخبز التي لم تشهد مثلها البلاد، إلا في خريف 1988م حينما اجتاحت البلاد سيول وفيضانات.
ومنذ أسبوع والناس وقوف مثل طلاب الأساس في طابور الصباح، الصبي ينظر إلى الشيخ والحرائر اللاتي لا يخرجن من مخابئهن أرغمتهن أزمة الخبز للوقوف في الصفوف.. الرجال القادمون من مواقع عملهم يجلسون خلف مقاعد السيارات ويدفعون بنسائهم لصفوف الخبز المتطاولة.. ولا يزال في السودان قيم من مواريث الماضي يؤثر الرجل على نفسه ويقدم المرأة لتنال ما تريد حتى لو كانت قطعاً من الخبز الغالي هذه الأيام!!
الأديب “محمد شكري” (يقص) أو يحكي بطريقة مدهشة حياته التعيسة في ميناء طنجة، المدينة الباذخة التي يطوف عليها بحارة السفن ليلاً يغدقون على مجتمعها السفلي مالاً بلا حساب، وبطل رواية الخبز الحاف ينظر لوالده الذي قتل شقيقه في عراك من أجل بقية (عيشة) تخاطفتها الأيادي التي تحركها بطوناً جائعة.
الآن فقط يتذكر السودانيون شعارات بائدة ماسخة كاذبة.. انتهت إلى النسيان وكان الهتاف (ما دايرين دقيق فينا قمحنا كتير بكفينا)، وبعد خمسة وعشرين عاماً دفعنا من ثمن لبن أطفال ضرائب للزراعة.. وجبايات من أجل زراعة الأرض بالقمح.. ولكن وقفنا في العراء (صفوف.. صفوف) ننتظر الخبز وحده.. ونكابد من أجل السليقة.. وملاح الكمونية.. و”علي عثمان محمد طه” في اجتماعات شورى الحزب الحاكم ينظر بعيداً لواقعنا.. ويطالب بإعادة صياغة الشعارات المحفزة للعطاء، ولم يخفِ الرجل إعجابه بواقعية تلميذه “أحمد هارون” وشعار مشروعه (موية.. طريق.. مستشفى) وكثير من الأمم والدول تجاوزت مشكلات الخدمات الأساسية التي نجعلها نحن مطالب عصية المنال.
أين تكمن المشكلة؟.. وكيفية حلها؟.. هل المشكلة في نقض الحكومة لمواثيقها وعهودها؟.. وبالطبع لن نستدعي للذاكرة المواثيق والعهود التي أشار إليها القاضي السابق “أبيل إلير” لأن تلك عهود ومواثيق سياسية وهذه عهود (حسابية) بإعادة النظر في سعر الخبز بحلول يوليو.. أو زيادة دعم المالية لكل جوال من القمح لذلك وقفت المطاحن في منتصف العام.. وجف الدقيق من الأسواق.. والمطاحن لا تعارض إعادة ترشيح “البشير” ولكنها تطالب بتقديم المالية دعماً لها يوازي حال السوق المائل.
أما الحكومة خيارات محدودة جداً.. أما زيادة سعر قطعة الخبز الواحدة لجنيهين أو جنيه ونصف الجنيه أو مضاعفة المالية للدعم الذي تقدمه للخبز وجوال الدقيق أو أن نعتذر علناً لوزير المالية الأسبق “علي محمود عبد الرسول” بعد أن ألهبنا ظهره بسياط النقد والتجني، وهو يطالب بالعودة لعواسة (الكِسرَة) بدلاً من دقيق الفينا القادم من البراري الكندية بدلاً من قمح مشروع الراجحي في الشمالية، الذي لا يعرف أين يذهب، وصفوف الخبز تتطاول ويسهر الناس حتى الصبح من أجل (الرغيفة) واللقمة الشريفة!!