إعادة إنتاج أزماتنا بعد ربع قرن
لا تغفل الدول الذكية عقولها.. لا تترك ما ينتج عن مبدعيها وعلمائها من أفكار وقدرة على قراءة المستقبل والتنبيه إلى مواطن الخلل لأنهم يرون ما لا يمكن لآخرين أن يروه.. ولديهم القدرة على الإشارة إلى مواطن الخلل عبر مقال أو قصيدة أو أغنية أو بحث علمي أو ورقة بحثية.
قبل نحو (25) عاماً من الآن كتب الشاعر الراحل “محمد الحسن سالم حميد” قصيدته (الضو وجهجهة التساب) التي صور فيها عبر ملحمة شعرية لا مثيل لها في الشعر العربي عموماً معاناة “الضو” بطل القصيدة مع فيضانات وسيول وأمطار عام 1988 الشهيرة التي أحدثت كوارث بيئية وإنسانية شبهها البعض بفيضانات 1948، وسرد “حميد” في تلك القصيدة ما رآه بأعينه من معاناة الناس صباحاً ومساءً بعد أن قضت المياه على كل أسباب الحياة في قريته الصغيرة، صورها “حميد” كما رآها صور ناطقة مؤلمة وبتفاصيل ناطقة تكاد تراها بعينيك وأنت جالس في مكانك كأنما (يستلف) كاميرا المصور الحربي الذي ينقل تفاصيل المشهد بعبثيته ووجعه دون تجميل.
أورد “حميد” في تلك القصيدة المطولة تفاصيل حياة الناس مع المياه التي انفجر عنها جوف البحر والسماء قائلا:
عاين البلد دي دمار.. دمار
فيها ايش فضل؟
لعبة قصب في أيدين طفل
الحيطة وكتين التقع تقع ألف وجعة على الضلع.
ويمضي بقوله:
لا حول يا الكتب.. الكراريس المكرنة في الشتل
التختة… أقلام الرصاص.. كنب المدارس كور يلوج
باب الفصل كاسبو موج
لا قوة يا ورق الجرائد.. يا المصاحف
والصحيحات المجخنسة في الذبل
يا “الضو” منو الكان بيصدق كان هنا
ليلة ذكر… حلقة مديح.. دارة غنا
هيصة ورقيص.. القرمصيص..
سيرة عريس وحلاة عروسو محننة؟
يا “الضو” منو الكان بيصدق هنا شفع بيلعبو جنب بعض؟
ثم يصور الحال بعد أن تمددت المياه في كل شبر قائلا:
بعض المسافات اتلغت
الفارغة طمبجها.. والملانة اتفرغت..
ثم يتناول “حميد” موقف السُلطة والإعلام
السُلطة عن غرق البلاد مسؤولة هي
وفوق عينها حقنا تدفعوا
ويشير في واقع مماثل لما نعيشه الآن مما اسماهم بـ(المستفيدين من بزة أطفال السواد المانزل فوقهم ملك) في إشارة منه إلى التجار المضاربين بقوت الناس.. ومحتكري البضائع الذين يكنزون المال من فوق كوارث ومآسي الناس بقوله:
غلو البضاعة
العندو سلعة عرفلها
غلو القمح…غلوا اللحم…غلو الخدار…حتى الملح
دسوا اللبن
دسوا العدس والصلصة
دسوا الإسبرين دسوا المعايش كلها..
*وأشار “حميد” في ملحمته إلى التقاعس الرسمي تجاه أزمة قريته وإنسانها…وكشف عن حاجة الناس إلى (قيف طويل مايطلعوا البحر) وعن حاجتهم إلى تدخل الدولة حتى لا يترك الحبل على الغارب للتجار (المستفيدين من بزة أطفال السواد).
“حميد” كشف كل ذلك قبل نحو ربع قرن من الآن.. ولأننا أمة لا تحتفي بعقولها.. ولا تأبه لمن يسدون لها النصح لتجاوز لأزماتها الإنسانية والبيئية والاجتماعية والسياسية فإننا نعيد إنتاج أزماتنا الآن في شرق النيل.. والخرطوم وأم درمان وكسلا وكردفان والشمالية ونهر النيل.. وكأننا لم نغفُ حتى الآن من سُباتنا قبل (25) سنة.