خربشات
(1)
بحروف دامعة وعيون غاصت عميقاً في الحضور الكثيف.. وبكلمات أقرب لتعابير الوداع آثر “محمد بن عيسى” أو (بنعيسى) الأديب والمثقف ووزير خارجية المغرب الأسبق وداع جمهور مهرجان أصيلة في نسخته الأربعين الأسبوع الماضي.. وقال: إن ظروفاً قاهرةً وأوضاعاً اقتصاديةً تمر بها بلاده المغرب، قد تجعل من إقامة المهرجان السنوي للآداب والفنون والثقافة أمراً صعباً في العام القادم، ولكنه أبقى على بصيص أمل.. وشمعة خافتة الضوء في آخر النفق بإمكانية عودة عصافير أصيلية العام القادم إن شحذت الهمم وتضافرت الجهود.. وحزم أبناء مدينة أصيلة أمرهم وحافظوا على إرث صنعه “محمد بن عيسى” بالأرق والسهر والتخطيط.. والصبر على وعر الدروب.. حتى أصبحت تلك القرية الصغيرة التي تجاور ميناء طنجة وتطل على المحيط أشهر مشروع ثقافي في العصر الحالي.. تم تنفيذه بإرادة مثقف كبير.. هو “محمد بن عيسى” ، الذي ألقى يوم الجمعة الماضي خطاباً أثار الخوف والرعب في نفوس عشاق أصيلة وسكانها.. ورواد الأدب والثقافة.. و”محمد بن عيسى” قال بنبرة حزن عميقة : لست متأكداً من أننا سننظم الدورة الحادية والأربعين من موسم أصيلة الثقافي الدولي العام القادم، وبهذا ننعني موسمنا الأربعين، وبقى أن ندعو الله ونأمل أن يكون هناك موسم آخر في المستقبل، وفي إشارة أخرى قال “بن عيسى” :إذا جاء يوم ولم أعد فيه موجوداً فستبقى أصيلة مستمرة ، لأن “بن عيسى” لن يبقى إلى الأبد.. فهل تحدث الشاعر والدبلوماسي المغربي بإحساس من أصبحت أيامه معدودة في هذه الدنيا.. ويعد “محمد بن عيسى” ظاهرة نادرة في العالم العربي.. سياسي ودبلوماسي يقطن في قلب العاصمة الرباط.. وبالقرب من قلعة الملك المغربي.. لا تأخذه حياة المدينة الغارقة في الملذات.. يفكر في قرية صغيرة تسمى أصيلة.. ولد في أحد البيوت المصنوعة من الطين.. ونشأ في أزقتها.. أصوات النعاج.. وصياح الديوك في الصباحات الندية تغذي روحه برائحة أصيلية.. فكر في بناء مدرسة وقدر أنها لن تستوعب إلا عدداً قليلاً من التلاميذ.. نصحه الأصدقاء بإقامة مستشفى صغيرة في أصيلية لخدمة سكانها الريفيين.. لكنه وجد ميناء طنجة قريباً من تلك القرية.. فكر في جعل قريته قبلة للأدباء والشعراء من كل أرجاء الدنيا.. يعيد بعث الحضارة الإسلامية والعربية.. و(ينفخ) الروح في سوق عكاظ.. ويحترم الأدب العربي.. والثقافة الإنسانية و”محمد بن عيسى” قبل ذلك زار العراق.. وتسكع في شارع “أبو نواس”.. وسوق الكرخ.. ونظر للتماثيل التي شيدتها بغداد.. ونصبت في قلبها كعاصمة للثقافة والسياسة والتاريخ والحضارة، وكرمت بغداد شعراء وأدباء لم تكرمهم بلدانهم.. كان النصب التذكاري في وسط بغداد لـ”التجاني يوسف بشير” السوداني ، ولـ”أبو القاسم الشابي” التونسي، و”أحمد شوقي” المصري.. و”فدوى طوقان” السورية”.. و”محمود درويش” الفلسطيني.. وأحمد رفيق المهدوي” الليبي.. فماذا يقدم “محمد بن عيسى”؟
(2)
اختار الرجل إقامة مهرجان سنوي في تلك البلدة الصغيرة.. نصب الخيام في نسخة المهرجان الأولى في أطراف القرية، وأضاء الليل بالمصابيح القديمة، لكنه أطلق الحرية لمئات الأصوات التي خنقتها الأنظمة الديكتاتورية وحبستها في الأقفاص وحرمتها من حق التغريد في الفضاء.. وحق الشعوب أن تسمع شعراً وتقرأ نثراً.. احتضنت قرية أصيلية و”اسيني الأعرج” من الجزائر و”شكري المبخوت” من تونس.. و”اليأس منير” من ليبيا.. و”فاطمة يسين” من موريتانيا.. وجاء الأدباء من كل بقاع الدنيا وبلغات العالم.. من إنجليزية وبرتقالية وأسبانية وفرنسية وألمانية.. وتنفست الصدور المكلومة في أصيلية، واختار “محمد بن عيسى” أن يجعل مقعداً كوزير خادماً للثقافة وليس مانعاً لنهر المعرفة.. لم يهمل “محمد بن عيسى” كوزير للخارجية قضية الصحراء ووادي الذهب ولا موقف المغرب من منظمة الوحدة الأفريقية قبل أن تصير اتحاداً تشبُهاً بالاتحاد الأوروبي.. ولا أهدر وقته في بيانات مجالس جامعة الدول العربية، التي تحدثنا منذ نكبة حزيران يونيو 1967م، عن المنعطف التاريخي الذي تمر به الأمة ولم تخرج منه حتى بعد اتفاقية أوسلو، وكل اتفاقيات الاستسلام التي وقعها العرب مع العدو الإسرائيلي بالأصالة أو بالوكالة، ولكن “محمد بن عيسى” كان عبقرياً في اختيار المكان وشاعرياً في الزمان.. ورجل دولة خدم المعرفة والثقافة أكثر من كل وزراء الثقافة في بلاد المغرب العربي.
كان “محمد بن عيسى” مثل “خير الدين” التونسي كاتب الدولة ومفكر الأمة.. زرع الأرض اليابسة.. وسقى الورود العطشى فأنبت مهرجان أصيلة الذي رفع المغرب.. أسماً كبيراً مثلما يفعل لاعب كرة القدم في العصر الحديث، فإذا كان “جورج ويا” قد جعل العالم يردد اسم دولة ليبريا الموبوءة بالمشكلات، فإن أصيلة القرية الصغيرة على ضفاف المحيط.. أصبحت أشهر من فاس حيث مرقد سيدي “أحمد التجاني”.. وصارت أصيلة مثل فينوس وصقلية.. ومثل بغداد.. وكل ذلك بفضل “محمد بن عيسى”.
(3)
في اجتماعات اتحاد الصحافيين العرب التي عقدت بالعاصمة المغربية الرباط.. تم اختياري مع الأستاذ والمعلم “محي الدين تيتاوي” رئيس اتحاد الصحافيين السابق لتمثيل السودان.. و”تيتاوي” كان من حين لآخر يتيح فرصاً للتدريب والتعلم واكتساب الخبرات.. ويمدد العلاقات بأن يسافر أعضاء المكتب التنفيذي برفقته ويقاتل هذا الدنقلاوي الشجاع في سبيل حقوق الصحافيين… في تلك الاجتماعات طلب “محمد بن عيسى” من نقيب الصحافيين المغاربة دعوة كل المؤتمرين إلى منزله وسط العاصمة الرباط، وكان حينها وزير دولة بالخارجية.. استقبلنا “محمد بن عيسى” في صالون فسيح.. وطفنا على مكتبه الذي يضم آلاف المراجع في الأدب والسياسة والفقه والتاريخ.. واللغات.. وحدثنا عن ضرورة النهوض بالثقافة العربية.. وأن مستقبل الديمقراطية في الوطن العربي في مأزق حقيقي.. في ظل وجود أنظمة سلطانية وديكتاتوريات عقائدية.. وديكتاتوريات عرقية.. ولم يخشَ “محمد بن عيسى” شيئاً وهو يتحدث بثقة في النفس.. وإيمان عميق بالديمقراطية، وتكاد كلمات “بن عيسى” تتسرب إلى قصر الملك القريب من بيته.. سهرنا حتى منتصف الليل.. شنفت آذاننا الموشحات الأندلسية.. وغادرنا الدار الجميلة ونقيب الصحافيين المصريين “إبراهيم نافع” يضرب كفاً بأخرى.. وفتاة من دولة الإمارات تمثل نقابة بلادها.. تقول :هذا عربي من زمان غير هذا الزمان.. واهتم الوزير “بن عيسى” بالثقافة والمثقفين وقدم لبلاده المغرب الكثير.. وأخرج قريته من النسيان إلى الذيوع والشهرة.. وباتت أصيلية على كل لسان، وكتب “الطيب صالح” عن ليالي أصيلية وأفراحها ومنابرها الثقافية.
(4)
لكن شعاع الأمل قد يموت في مقبل الأيام.. و”محمد بن عيسى” يخطب لأول مرة منذ (40) سنة: كان إسهامي ، والحديث لـ”بن عيسى” ، في تدبير الموسم بنسبة (10%) ، وهذا كان متعمداً وبقية أعضاء المؤسسة قاموا باللازم وهذا يطمئنني، كم وزير خارجية جاء ومضى ولم يترك أثراً مثل هذا الرجل، وكم وزراء الثقافة في الوطن الكبير لا يميزون بين “نجيب الريحاني”.. و”الياس فريحه”.. وكل جمعة والجميع بخير.