نوافذ

نضال

إلى صديقتي الحبيبة..
أسعد الله أوقاتك كلها بالخير والرضا..

أما بعد..

عقارب الساعة تشير إلى الثالثة عصراً.. يفصلني عن العملية الجراحية ساعة أو أقل.. هذا إن صدق الموعد..
كنت أخشى أن يعتريني الخوف من الآتي.. رتبت ملابسي بهدوء شديد.. ربت على كتف ذاكرتي وهدأت نبضي بـ(لا حول ولا قوة إلا بالله)..
كنت أتعمّد أن أشاغب ما استطعت لذلك سبيلاً.. كي لا يظن من حولي أنني أعاني من حمى الخوف..
طلبت من الطبيب الذي أحضر لي الإقرار لتوقيعه أن لا أغيب عن الوعي بصورة كاملة.. أبدى موافقته على مضض.. أقنعته.. واتفقنا.. ثم فوجئت بغير ما تم الاتفاق عليه.. وهذا جرى لأسباب طبية بحتة..
أو ربما لأن القدر دائماً ما يقول كلمته دون أن يكون لنا الأمر فيما يقول.. بل الأمر لله أولاً وأخيراً..
اخترت أن أمشي على قدمي.. أن أمازح المارين كلهم.. وهم يغرقونني في يمّ دعواتهم.. ونحن لأول مرة نلتقي..
فبعضهم جمعني به هذا الممر الطويل.. والبعض الآخر جمعني به المصعد..
كنت أشكو من صداع حاد.. أكاد أن أغيب عن الوعي ولا أدري لماذا..
ولكني كنت أعزو السبب في ذلك إلى الصيام المتواصل ليومين تارة.. أو إلى سطوة القهوة حين تغيبنا عنها الظروف تارة أخرى..
ساعتان من الألم مرتا وأنا في غرفة الانتظار.. أرتدي اللون الأزرق.. الأزرق.. هو اللون الوحيد الذي لم أكوّن عنه فكرة.. أبداً.. لا أحبه ولا أكرهه غير أنه الآن يعني لي ما هو أكبر من ذلك بكثير..
كنت في غرفة الانتظار.. الانتظار الذي تكرهين وأكره أكثر من ما تكرهين..
كنت أهوّن الأمر على “منى”.. جارتي في غرفة الانتظار والتي سبقتني إلى غرفة العملية..
وجدتها وأنا في طريقي إلى العملية بعينين خائفتين ووجه شاحب وأنات تصرع القلب.. العشرينية الوديعة اللطيفة الثابتة التي كانت معي قبل قليل.. أضحت الآن في العقد الخامس من العمر.. بعد ساعة ونصف الساعة.. بدأ اختصاصيو التخدير ممارسة عملهم وبدأ القلب يشتد نبضاً.. كأن الجوانح قد ضاقت به.. بدأ الخوف يتسرب إلى جسدي رويداً رويداً..
ثم فجأة.. استعنت بالله عليه.. وقلت في نفسي (لو خفت ح يرتفع السكر أو الضغط وتتأجل العملية ولو اتأجلت أقل من ساعتين ح تنفجر ولو انفجرت ح أموت.. وده منتهى البدايات) إذن توكلت على الله..
ويا صديقتي..
أطل وجه ذلك الغائب فابتسمت وتلاشيت في اللا وعي بلا وعي مني.. بلا حول مني، ولا قوة..
امتلأت ذاكرتي فجأة.. تداعت الذكريات من كل حدب وصوب.. غرقت في كل ابتسامة خرجت من محياي ذات سعادة.. في كل ذرة حب غرسها ذلك البعيد فأنبتت ألف سنبلة في كل سنبلة ألف حبة.. تلاقحت حبوب الفرح فأنجبت الكثير من اللا وعي.. غبت تماماً.. فاستعدت وعيي رويداً رويداً وأنا أمام أهلي.. وأمامك أنت.. قلباً لقلب.. وروحاً لروح..
هو كان غائباً يا صديقتي.. كعادته..
يغيب كي لا يرى ألمي.. وهو لا يعلم أن أكبر الآلام أصلها الغياب..
بكيت ضعفي بقلب طفل.. احتضنتني أمي بدفء الدنيا فعلمت أن العملية قد تمت بنجاح..
غداً بحول الله سأسأل البروفيسور عن إذا ما كان قد اكتفى بذكرياتي كمخدر أقوى.. أم أنه أمر بمنحي المزيد من جرعة التخدير.

مشاركة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية