الديوان

(الشرقانيات).. حصائر وطنية على شفير التلاشي!!

لم يكن “حسين الصادق محمد” يفكر في غير صنعته التي احترفها منذ سنوات طويلة خلت، وصناعة (الشرقانيات) التي ظل يقضي سحابة يومه كله في تشذيبها وتهذيبها حتى يجد منتجه منها موطئاً له في ظل منافسة قوية من حرفيين حاذقين ومهرة.
و”حسين” الذي لم يكن لدية أدنى اهتمام بما يدور في الخرطوم من منافسة حامية الوطيس بين صراعات المحلي والمستورد من الحصير، بدا أكثر قلقاً وأقل اطمئناناً عندما صوب نحوه الزميل المصور “مبارك حتة” عدسة كاميراته ليلتقط له صوراً ربما لن تعود عليه بنفع، في الوقت الذي كان يأمل فيه بالظفر بزبون (ثمين) منّا نحن القادمين من الخرطوم، فيشتري منه شرقانية بسعر لا يسد رمقاً.
وعندما لم يجد “حسين” مخرجاً من (كاميرا) الزميل “مبارك” رسم على وجهه ابتسامة حسيرة لزوم الوقوف أمام العدسة مانحاً إياه الضوء الأخضر لأخذ مزيد من الصور.
قبل أن يجمع الرجل أنفاسه من هول الفلاشات الخاطفة التي منحت نهار منزله بمدينة الشُواك بولاية القضارف مزيداً من الضياء، كانت (المجهر) تشكل حضوراً لتبحر معه في دهاليز عالم الشرقانيات التي قد لا يعرفها كثيرون من سكان المدن الكبيرة، ولكنها تمثل قيمة سكنية مهمة في أطراف بعض المدن والأرياف في هذا الوطن (الفسيح).
الحصير صناعة محلية باهرة
وعن الطريقة التي يمكن بها تعلم صناعة (الشرقانيات)، والمواد التي تصنع منها وسعرها والمناطق التي تباع فيها يقول السيد “حسين الصادق “: صناعتها سهلة وليست معقدة كما يبدو لأول وهلة، وهي لا تحتاج لمجهود كبير، ويمكنك أن تصنع في اليوم ما بين 5 إلي 10 شرقانيات. ويضيف: تستخدم (الشرقانية) في بناء أسوار المنازل وتسمى بالـ(صريف) أو (الحوش)، وكذلك تُبنى بها الرواكيب؛ لأنها مصنوعة من (القش) البارد، ولا تحتاج لتكييف أو مروحة، بالإضافة لذلك نجد أن (الشرقانية) اقتصادية جداً، حيث يمكنك أن تعمل راكوبة سعة (3) سرائر وعدد من الكراسي بثلاث شرقانيات فقط، لا تكلفك سوى مبلغ يبدو من قلته وكأنه (عطية مزين)!!
البربحة.. تقنية التشذيب
أما عن المواد التي تصنع منها (الشرقانية)، فيقول “حسين”: يعتبر حشائش (قش) النال، البوص، العدار، أهم المواد الخام الأولية التي تصنع منها الشرقاني، بالإضافة لحبال الجامايكا التي تستخرج من (لساتك العربات)، وهي أفضل أنواع الحبال المستخدمة في نسج حصير (الشرقاني)، ويعتبر البوص أفضل أنواع القش في صناعها. وحدد “حسين” الفترة الزمنية التي يتم جمع القش الذي تصنع منه، قائلاً: لا بد من قطع القش في شهر ديسمبر، ثم (يبربح) أي (ينظف من الشوائب ويُشذب) من الفروع والصفق، ويربط في شكل حزم تسمى الرأس، موضحاً أن سعر أتعاب العامل الذي يقوم بهذه المهمة تبلغ جنيهاً على الرأس الواحد، وأما إذا أردت شراءه جاهزاً فإنه سيكلفك ستة جنيهات. وأضاف: لكنه يمكنك أن تقطع القش بمفردك وتخزنه لفترات طويلة، خاصة وأن التخزين لا يضره بشيء.
المقاسات بالذراع
وفي السياق، قال “عمر إبراهيم” صانع شرقانيات آخر: إن رأس القش الواحد قد يكفي لصناعة شرقانية كاملة بطول 10 أذرع، وهذه أكبر أنواع الشرقانيات، لكن يمكننا زيادة طولها إن أراد الزبون ذلك، فإذا كان الزبون يريد شرقانية أكثر طولاً وعرضاً، فإننا نصنعها له على الفور وبالمقاس الذي يريد، ولكن سعرها سيختلف بالطبع.
وأضاف: أما أقصر شرقانية فلا ينبغي أن يقل طولها عن (5) أذرع، واستطرد: وبالتالي تتفاوت الأسعار بحسب الحجم والمواصفات، حيثُ تًُباع ذات الـ(10) أذرع بسعر يتراوح بين 12 إلى 13جنيهاً، وذات الـ(5) بين (7) و(8) جنيهات.
الشواك عاصمة الشرقاني
وفي السياق، تعتبر بلدة الشواك (شرقي السودان)، أهم مكان وأكبر سوق في البلاد بصناعة وتسويق حصائر الشرقانيات – بحسب خبراء في هذا النوع من البضاعة – واعتبر التجار المتعاملون في هذه الحصائر المحلية أن (الشواك) هي السوق الأكبر التي تجتذب الراغبين في الشراء حتى من العاصمة الخرطوم التي يأتي منها زبائن كثيرون يستخدمون (الشرقاني) في عمل مظلات بلدية في المنتزهات والمطاعم السياحية، وهؤلاء دائماً يفضلون (الشرقانية) التي طولها (5) أضرع على الأخرى الأكثر طولاً، أما التجار الذين يأتون من الولايات يقبلون على شراء (الشرقانيات) التي طولها (10) ضراعات.
قصيرة العمر لكنها جميلة ورخيصة!!
إلى ذلك، ورغم أن كثيرين يعتقدون أن حصير (الشرقاني) ذو صلاحية محدودة، و(قصير العمر)، إلاّ أنهم يؤكدون جماله وروعته وأنه سعره مناسب جداً مقارنة بعمره الافتراضي هذا إن لم يكن مغرياً. وكان “حسين الصادق” قد أكد لـ( المجهر) أن العمر الافتراضي للشرقانية يبلغ في حده الأقصى (3) سنوات، فيما لو تم الحفاظ عليها بصورة ممتازة – بحسب إفادته -. وختم “الصادق” متحسراً على ما أسماه ضمور السوق وقلة الزبائن وكساد وركود البضاعة، التي صارت عاجزة عن منافسة أنواع الحصير المستورد الذي يشبه كل الحصير الموجود في العالم ولا يميزنا بشيء، كما أن المشمعات والفرشات البلاستيكية الضارة بالصحة والبيئة أضحت تمثل خطراً على حياتنا وحياة حيواناتنا، وتقود صناعتنا إلى الهلاك الوشيك.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية