*دائماً ما كنت أقول إن إنتاج أعمال درامية سودانية أمر مهم للغاية فنياً واجتماعياً، ولأنها أكثر الأشكال الفنية القادرة على مخاطبة قضايا المجتمع والشباب والمرأة وكل الفئات الحيوية في المجتمع.. ولكن انصراف المسؤولين عن الإنتاج الدرامي مؤخراً أضر بها كثيراً وجعل أجيال درامية لها إسهاماتها وخبرتها تنقطع تماماً عن الأجيال الحديثة.
*التلفزيون القومي بث خلال رمضان الماضي مسلسل (جوهرة بحر أبيض) وهو من إنتاجه.
*عدد من نجوم الدراما تألقوا بصورة لافتة في مسلسل (جوهرة بحر أبيض) منهم “أبو بكر فيصل” الذي صعد بسرعة صاروخية ليصبح الآن أحد أهم الممثلين خلال فترة بسيطة، بالإضافة إلى “محمد موسى” الذي أصبح عاملاً مشتركاً في كثير من الأعمال الدرامية والمسرحية مؤخراً، وتألقت نجمة كورال كلية الموسيقى والدراما “مفاز بشرى” في دور (وكيلة) المدرسة الصارمة، فيما كان رهان المسلسل على الممثلة الصاعدة “ريم الطيب” التي كانت شخصية محورية تدور حولها كثير من الأحداث، واستطاعت “ريم” أن تقدم نفسها كوجه درامي ومسرحي ذكَّر الناس بوجوه درامية قديمة ومؤثرة، وكانت “ريم” بقدر رهان أسرة المسلسل عليها واستطاعت أن تتنقل في دورها المركب بمهنية وحرفية عالية، برهنت من خلالها على علو كعبها وأنها نجمة قادمة بقوة.
*وعبر (اليوتيوب) بث مسلسل (عشم) الذي تم إنتاجه من قبل مجموعة من الشباب في الخارج، وتناول قضايا اجتماعية لسودانيين في المهجر.. وسوف يتم بثه هذا الموسم من خلال شاشة سوداينة 24 ليجد حظاً أكبر في الانتشار والتوثيق..
*عدا هذين العملين لا يمكن أن نؤشر إلى أننا أنتجنا دراما محلية..فكل التجارب الأخرى لا تخرج من عباءة سلسلة (الست كوم) الفقيرة فنياً ومعرفياً وانتاجياً .. ولكنها سريعة التحضير وسريعة التناول ولا تغوص بقوة في قضايا المجتمع، أو تبرز ثناياه وتقاطعاته..
*ولكن هذه السلسة للأسف أصبحت الآن هي المطلوبة من القنوات الفضائية..
*وتدفع المحطات الفضائية سواء في الشروق أو النيل الأزرق أو الخرطوم أو سودانية 24 لمنتجيها ومخرجيها وممثليها، وحتى الكتاب الدراميين أصبحوا لايغامرون بتقديم أعمال درامية طويلة، خشية أن تظل حبيسة أدراج المسؤولين لسنوات طويلة، قد تتغير فيها كثير من الأحداث التي يناقشها الكاتب وتصبح بالتالي تغرد خارج السرب..
*حبست إذن القنوات الفضائية كل الكوادر الدرامية من ممثلين ومنتجين ومخرجين وكتاب في تلك الأدوار في السلسلة او (الاسكتشات القصيرة) والتي لا تتطلب جهداً كبيراً من الممثلين، ولا تخرج أفضل ما عندهم من أداء درامي ..واتجهت الدراما بكلياتها للإضحاك..
*ربما هذا الأمر هو ماتريده بعض المؤسسات ..تريد إنتاج دراما بغرض الإلهاء .. ولا تضر القنوات ولا المشاهدين ولا الممثلين بشيء .. فهي تدفع لهم وتحقق عائداتها من الإعلانات ويستمتع الجمهور بالـ(نكت) و(المواقف الكوميدية) التي تبنى عليها تلك الأعمال الدرامية..
*لن يضار أحد من هؤلاء..المتضررة هي الدراما السودانية في حركتها التاريخية والطبيعية..
*ثمة جهات تعمل على اغتيال الدراما السودانية بحبسها في أدوار (الإضحاك) و(الإلهاء)..وصناعة تاريخ جديد للدراما السودانية يقدم نجومه من المهرجين والمغيبين وغير القادرين على مناقشة قضية واحدة بعمق ورؤية ومعالجة…
* أين هي الآن دراما تأسست منذ عهد قديم وقدمت رغم ظروف الإنتاج الصعبة (دكين) و(سكة الخطر) و(أقمار الضواحي) و(طائر الشفق الغريب) بل وحتى أعمال تم إنتاجها قبل وقت قريب مثل مسلسل طه سليمان (وتر حساس) استبشرنا أن يكون بمثابة فاتحة لعودة دراما جيدة..حتى وإن كانت موسمية، بل وحتى (حكايات سودانية) تم تغييبها..
*الدراما ليست حلقات من (الست كوم) ولا هي إعادة تدوير نكات بايخة وسمجة ومملة وتقديمها في قالب درامي..ولكنها حركة ملحمية تحتك بالمجتمع وتناقش هيجانه وتفاعله الاجتماعي والسياسي والفني .. برؤية قوية وصريحة وتضع مشرط الجراح في موضع الألم..
*من المؤسف جداً هدر طاقات إبداعية درامية مثل جمال عبد الرحمن وفيصل أحمد سعد وجلواك وغيرهم في أن يكونوا أدوات لتغبيش وجه الدارما وتفريغها من رسالتها الخالدة..
*انظروا إلى مصر القريبة من يتذكر الأعمال الهايفة مثل الاسكتشات وغيرها، في المقابل لاتزال نجومية أرابيسك وليالي الحلمية وزينب والعرش وغيرها شاهدة، يلجأ اليها المصريون كلما اختل إيقاعهم في تقديم دراما جيدة…
*مايحدث الآن لدينا هو اغتيال مع سبق إصرار وترصد للدراما السودانية الحقيقية..