موت معلن!!
كان الناس يعزون بعضهم حتى تحسب أن شخصاً عزيزاً قد فارق الحياة.. والمنطقة غارقة في حزنها.. وحركة اللواري قد توقفت ونشطت الدواب وكأن عجلة التاريخ قد عادت لمئات السنين.. والحيرة تلف الجميع.. والسلطات تقف عاجزة.. حيال ما يحدث.. وأخذ البعض يحصي أيام الصيف.. واقتراب فصل الخريف.. والناس في جزع وخوف على أنعامهم من الضأن والإبل وأخبار نفوق مائة وأربعين رأساً من الضأن في بادية الكبابيش عطشاً تملأ الأمكنة وتصبح أحاديث مجالس الأفراح والأتراح.. في مدينة جبرة الشيخ التي تمثل حاضرة قبيلة الكبابيش الأولى قبل سودري وعديد راح في دار السافل.. لا حديث للناس إلا حديث نقص المياه.. وتوقف (الدوانكي).. وكيف أن الناس قد أغرتهم المدينة.. والتطور الاجتماعي والاقتصادي واستبدلوا الآبار القديمة والدلو.. التي لا تستخدم الجازولين ولا الطلمبات الغاطسة.. بالآبار الحديثة التي توفر الساعة الواحدة ألف جالون من الماء.. وقد أمن الناس مكر الدهر وتقلبه وفجأة أطلت أزمة الجازولين الأخيرة.. وتوقف على أثرها الدوانكي ومحطات المياه.. الجوفية.. وضجت أصوات الحيوانات جراء العطش.. ومن هؤلاء ذلك الرجل الذي ذهب إلى محطة المياه.. بعد خمسة أيام.. وأغنامه صائمة عن شرب الماء.. وعند وصولها المحطة وجدها صامتة والناس تنظر إلى الحديد.. وتنتظر وفداً طار إلى سودري بحثاً عن الجازولين.. ولم يعد الوفد وصاحب الغنم صابراً منتظراً حتى ماتت مائة وأربعين شاة في بادية الكبابيش عطشاً!! وقديماً كان الناس يرددون من ثورات التراث الإسلامي إن تعثر البغلة في أرض العراق.. وفي السودان اليوم تموت الماشية وتنفق عطشاً ولا تشعر المدينة فجيعة ولا تحدثها نفسها لتبكي لمنظر الضأن يذرف دموعه.. ويحتضر ويموت مثل (قرنتية) “هاشم صديق” التي بكت الخرطوم لموتها ولم تبكي على ضأن بادية الكبابيش.
مدينة جبرة الشيخ عادت إليها الحياة بعد أن اقترب شارع الصادرات من بلوغ أم درمان ولكن العطش ونقص الجازولين، وربما أسباب أخرى قد يعطل اكتمال الطريق في الموعد الذي ضربه رئيس الوزراء الفريق “بكري حسن صالح” لوصول الطريق أم درمان في يونيو حزيران القادم، ولم يتبقَ من ذلك الموعد إلا شهر رمضان ونصف شهر.. ولكن من واقع المشاهدة البصرية قبل يومين فقط والجلوس مع أهل جبرة الشيخ في أسواقهم والإصغاء لآلامهم وحسرتهم على نفوق الضأن عطشاً، فإن الفريق “بكري حسن صالح” مطالب مرة أخرى بتفقد الطريق ميدانياً كما فعل في شهر يناير الماضي، وحينما اشتجر الخلاف علناً بين المهندس العربي ومولانا “أحمد هارون” والي شمال كردفان، هل سيكتمل الطريق في أبريل أم يونيو؟، المهندس المقيم في المشروع أصر على يونيو.. وانتصر لرؤيته وموقفه الفريق “بكري حسن صالح” الذي زف للشعب السوداني النبأ السار، ولكن الأنباء المفزعة عن أزمة الجازولين وتوقف العمل في بعض قطاعات الطريق خلال الشهر الحالي.. ومدير وحدة أمن محلية جبرة الشيخ يروح ويغدو بين الأبيض ومدينته لتوفير الجازولين لمحطات المياه والطواحين التي توفر للمواطنين (العصيدة الحاف).. مدير وحدة أمن جبرة رجل كله همة.. وأفراده ينتشرون في الأسواق لمحاربة ظاهرة الإتجار بالوقود.. والاحتفاظ باحتياطي للضرورات القصوى.. وبطبيعة الحال ما عاد فرداً يتذكر طريق الصادرات الآن وقد أصبحت الأولوية لشرب الماء وطاحونة الدقيق!!