أخبار

خربشات

في حي شعبي بمدينة أم درمان التي تتلاقح في أحضانها مكونات السودان القديم.. جمع بيت العزابة ثلة من الموظفين والعمال وآخرين خارج الوصف الوظيفي، لم يتأثر البيت بصراع الطبقات كما يزعم “كارل ماركس” وتابعوه من الشيوعيين.. أطلقت ثلة الموظفين على البيت اسم (الكوخ) وأطلق عليه العمال اسم “الكمبو” وكل باسمه فرح .. قبل شروق الشمس يخرج “عثمان” إلى المحطة الوسطى يحمل عجينة الزلابية وعجينة الطعمية، ينتظره في المحطة سائقو الحافلات والدفارات.. وعمال النظافة والجنود من الرتب الصغيرة، وعمال المصانع في لهفة وشوق إلى لقيمات “عثمان” الذي أشتهر بإتقان صناعتها.. والابتسامات التي يرسلها إلى زبائنه، والمسجل الذي لا يكف عن الغناء وأشرطة “محمد وردي” التي حفظها معه رواد المقهى المفتوح على الشارع.. منذ الصباح يبدد صوت “وردي” الشجي أحزان الناس وآلامهم.
يالفرهدتي فرح جواي أنا جملتك بي ألواني
أنا علمتك تاخدي المعنى من إحساسي وتبقي معاني
أنا سافرت عشانك أنت وسبت البلد الما ناسياني
كم حاولت أصارحك ياما إلا العزة بقت مانعاني
يضع “عثمان” قطعة الزلابية وينتظر فقاعات الزيت تخرج من جوفها ويبدأ تحريك الزلابية والزبائن ينظرون إليها نظرة مشتاق لمشتاق، وهو يدندن مع “وردي” ورغم حبه الشديد وارتباطه العميق بأغنيات “وردي” فـ”عثمان” لا يمل سماع صوت المطرب “النور الجيلاني” يا مسافر جوبا.. لأن الرجل في صباه كان جندياً هناك.. وتم الاستغناء عن خدمته بسبب مخالفته لتعليمات الصول “جمعة مرجان”.. وبعد الثامنة تنتهي مهمة “عثمان” الأولى.. وتنقضي حصة الزلابية ويفتح صفحة الطعمية لطلاب المدارس والطالبات اللاتي يتجمعن حوله.. “زينب” و”ريان” و”منى” و”سهى” جميعهن يطلبن زيادة الشطة ومضاعفة عدد حبات الطعمية داخل العيش الساخن.. يبدو “عثمان” فرحاً بحياته، يعود عند الثانية عشرة منتصف النهار.. ويخلع جلبابه وينام حتى الثالثة ظهراً موعد عودة بعض الرفاق.
(2)
بيت العزابة الذي تعددت أسماؤه يضم إلى جانب “عثمان” “سيد أحمد” الشايقي الموظف في إحدى الوزارات الهامة، وهو شاب أنيق المظهر.. رقيق يقرأ لرفاقه في الأمسيات أشعار الشايقية.. لكنه يدس من بينها أشعار لـ”حميد” وبعض ملامح أشعار الثورة أو المعارضة.. أما “كوكو حماد” فهو منسوب إلى القوات النظامية فهو ضابط صف شديد الولاء لسلاح المهندسين، وفي الأمسيات (يحكي) عن تجربته الطويلة في الحرب بالجنوب، ومشاق القتال وصمود الرجال.
ويتعدد مكون الكوخ أو الكمبو الصغير أثيناً وثقافياً وطبقياً “الرضي موسى” يعمل تاجراً وهو من منطقة الهشابة بالنيل الأبيض، لم تستوعبه مشروعات الإعاشة التي أقامها حكام ما بعد الاستعمار، واتجه مثل كثير من شباب بحر أبيض للتجارة جنوباً وشمالاً ووسطاً.. أما “صغيرون آدم” فهو سلطان للكيف يأتي بالتمباك من قرية طويلة بالقرب من الفاشر ليعدل مزاج أهل الخرطوم ومروي وكسلا.. والشيخ الكمسنجي و”إبراهيم القصاري” أمهر الصنايعية في المنطقة وخبير التايوتا.. وفي كل مساء يجمع صحن الفول شلة العزابة ويشتجر البعض.. ويضحك “خالد” المساعد الطبي بمستشفى “التجاني” ويقول (والله فضل ليكم شوية تبلغوا عندنا) مزيج من الشباب والشيوخ قذفت بهم الأرياف لأتون المدينة وطرقاتها تجمعهم غرف بيت العزابة وتفرق بينهم المهن والاهتمامات.. “إبراهيم القصاري” أقلع عن تعاطي التمباك وتبدت عليه علامات الوهابية، أطلق لحيته.. وقصر سرواله وبنطاله.. وبات أكثر التزاماً.. رفض مصافحة “عائشة” التي تأتي لبيت العزابة لبيع الفول والتسالي.. والعنكوليب والنبق.. وبات لا يطيق رؤيتها.. ولا يتحدث كما في السابق.. بينما تبدت على “هاشم” بعض علامات الصوفية الكبرى، ظل يرتاد حلقات الذكر في ضريح “حمد النيل”.. وقد أطلق لحيته ولون طاقيته وطالت مسبحته.. واستبدل غرامه وعشقه للحقيبة وأغنيات الطمبور بمدح “المصطفى” صلى الله عليه وسلم، وخاصة أولاد الشيخ “عبد الرحمن البرعي”.. ولا يطيق “هاشم” رؤية “إبراهيم القصاري”.. والاثنان ينعتهما “صديق عبد الرحيم” بالرجعية والتخلف.. وهو يتحدث عن العلمانية وفصل الدين عن الدولة وخصائص الدولة المدنية وفشل مشروعات الدول الإسلامية، بينما أغلبية العزابة لا شأن لها بهذا أو ذاك.. وحتى “النور” (الكارثة) كما يطلق عليه شلة أنسه لم يأبه كثيراً لتصوف المتصوفة ووهابية المتوهب وشيوعية “صديق”.. ظل يجلس في الأمسيات بعيداً يجترع قليلاً من الجعة البلدية.. (المريسة).. ويخلد لنوم عميق.. أو النشوة.. والفرح.. والغناء بصوت مرتفع.
(3)
“إبراهيم القصاري” يغيب طويلاً عن المنزل وبات غير منتظم في جلسة البوش.. وأقلع عن التدخين والتمباك.. ولكنه يكثر من الجدل في القضايا الخلافية و”القصاري” بات يقصر الطرق إلى النار أكثر من التوبة.. من يصغي لحديثه عن الأفعال التي ترمي بأصحابها لقاع جهنم.. يتسرب لروحه اليأس.. ولكن “صديق” الذي يشرب في أمسيات الخميس القليل من المريسة، بات يتجنب حوار مولانا “إبراهيم القصاري”.. وفي ذلك اليوم هطلت أمطار صيفية خفيفة، وغسلت طرقات المدينة، وتذكر “القصاري” دياره وأهله في بادية كردفان الشمالية.. وأخذ يترنم بأبيات من الدوبيت:
يوم تلقانا من جبرة وقصدنا سلوم
ويوم تلقانا من الدار قطعنا الحوم
ما بنموت لو اليوم بقى ما يومنا
وما بنفز حتى سمحات القبيلة تلومنا
ضحك “صديق” على مولانا الذي يتغنى بسمحات القبيلة فرد عليه “القصاري” أنت مسلم.. ومن أصل طيب لكن تشرب (المريسة) وهي تُعبد لك طريق نار جهنم، قال “صديق”.. شوف يا “القصاري” أنا مسلم وأشهد أن لا إله إلا الله.. وأكثر يقيناً بقدرة الواحد الأحد وبيوم القيامة.. والحساب.. أنا لست حاكماً في هذا البلد.. لم أسرق مال الشعب ولا سكر التعاون.. ولم ألوث يدي بدماء المسلمين.. والخمرة حرام.. ولكني على ثقة في الله الواحد الحليم الودود الرءوف الرحيم غافر الذنوب.. بأن (مريستي) هذه يعفوها بحلمه ويدخلني الجنة برحمته هل لك شك في ذلك.. صمت “القصاري” برهة.. وقال لكنك تذهب للمشايخ وترقص في حلقات الذكر.. قال “صديق” هذا تراث أجدادي وأجدادك.. الصوفية في السودان مثل الوهابية في السعودية.
(4)
قبل أن ينفض حوار الصوفي والوهابي.. خيم على المدينة ظلام دامس بانقطاع التيار الكهربائي، وبات الحديث عن السياسة.. والحكومة والانتخابات وعاصفة الحزم وارتفاع سعر الدولار.. وفجأة خرج الشباب إلى الشوارع يهتفون سيد البلد، سيد البلد.. حيث انتصر فريق الهلال في المباراة التي لعبها خارج الحدود على الفريق المصري.. وزرع الفرح في كل حارة وبيت وخرج “صديق” و”القصاري” معاً يهتفون سيد البلد، سيد البلد.
وكل جمعة والجميع بخير..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية