موسيقى الأنصار بالجزيرة أبا .. (تشريفة تقول للضيف حبابك)
عزفت للملك (فيصل) و(عبدالناصر) ويستقبل بها (البشير) اليوم
الخرطوم: سيف جامع
إذا كانت الموسيقى شقيقة اللغة في نقل الأفكار والأحاسيس، فإن موسيقى الأنصار بالجزيرة أبا نطقت بمئات الكلمات، تدركها حينما تستمع إلى معزوفات فرقة موسيقى الأنصار، حيث يأخذك عبقها إلى تاريخ وحاضر الوطن وماضيه من خلال الموسيقى، وتعد موسيقى الأنصار إنجاراً فريداً للحضارة الإنسانية ببعدها العسكري والحماسي، وهي اللغة المعبرة عن الذات من خلال مشهد العزف الراجل المبهر، وعرفت تلك الموسيقى كعنوان بارز في تلك المنطقة المباركة المعتقة المروية بالحرية والخير والمحبة، والفرقة أسسها الإمام عبد الرحمن المهدي، وقد أهدته إياها ملكة بريطانيا اليزابيث لدى استقبالها له في زيارته للندن، لتصبح بعدها التشريفة الخاصة بالأنصار ضمن أدبياتهم المعهودة التي لا تخلو من العناد والتفاخر والتباهي.
لموسيقى الأنصار اليوم حضور طاغٍ في جميع المناسبات في الجزيرة أبا وولايات البلاد عموماً، وبعد أن كانت متخصصة في عزف الألحان والأناشيد الوطنية والمارشات العسكرية والجلالاتـ تحولت إلى المشاركة في الكرنفالات الشعبية، وعند استقبال الضيوف القادمين إلى المنطقة، وتحوَّلت إلى المناسابات الاجتماعية، لتضفي عليها بهجة بالزي الأبيض الخاص بأعضاء الفرقة، وتحتاج آلات الفرقة إلى مهارات عالية، لأنها تشتمل على الاستعراض والعزف الراجل، وظل شذى موسيقى الأنصار عابقاً برائحة التاريخ، يأخذك إيقاعها إلى الاعتزاز بالانتماء لوطن شامخ كمنارة باسقة في فضاء الكون، وحملت هذه الموسيقى مشروعاً نهضوياً للمجتمع ليبقى فاعلاً، كما أن الموسيقى هذه تحمل في سياقها بعداً عسكرياً بإيقاعاتها التي تعمل على الحفاظ على الروح القتالية، وتعزز من رفع المعنويات مبشرة بالنصر، فضلاً عن كونها ترجمان التاريخ المديد بالبذل والعطاء دون حدود، وهذا أدى إلى أن تتحول موسيقى الأنصار إلى فخر، ويستعان بها لتزيين كافة المناسبات، حيث ساهمت في نشر ثقافة الحياة الداعية للبهجة والفرح، غير أنها تبرز الوجدان الشعبي.
ويقول الناشط بكيان الأنصار (عروة الصادق حمدون) إن فرقة موسيقى شباب الأنصار تأسست عام 1933، وهي فرقة منضبطة من خيرة شباب الأنصار المبدعين في المجال الموسيقي، وذلك عقب رحلة قام بها إمام الأنصار طيب الله ثراه إلى المملكة المتحدة، وقد اشترى في تلك الرحلة كل مستلزمات الفرقة من زي وأدوات، وكان أول المعلمين للفرقة من جنوب السودان، عمل بالجيش السوداني يدعى جبريال (جبريل) ومن بعده حضر أحد المعلمين يدعى على محمد، وهو بمثابة معلم الانضباط، ويضيف عروة “كانت الفرقة ولا زالت بمثابة سلاح موسيقى كيان الأنصار بالسودان، إذ لها عدة مكونات (قربجية، عازفي صفارة، ضاربي الطبول، وحملة علم الفرقة) ودخلت آلات أخرى لاحقاً.
ومن أوائل الذين تدربوا على موسيقى الشباب والمؤسسين السيد محمد آدم قميرو، الذي يقود الفرقة حالياً، ورغم كبر سنه إلا أنه ظل المرجع الموسيقي لكل خبايا وأسرار تكوين موسيقى شباب الأنصار.
تكوين الفرقة
وبحسب عروة الصادق اعتمد الإمام عبد الرحمن في تكوين هذه الفرقة على كل المكون الثقافي في الجزيرة أبا والسودان وقتها، إذ مثلت أبا حينئذ لقاح لكامل أهل السودان، فكل قبائل السودان اشتركت في الفرقة، وبالعودة لقوائم الشباب وقتها نجد أن أول دفعة بها عبد الله عيسى وعبد الله محمد أحمد ، وأدم يحيى محمد، وعبد الرحمن أحمد بره، وهو إمام مسجد الكون حالياً، وإبراهيم إدريس، وعبد الباقي صباح الخير (الدينكاوي)، وإبراهيم أحمد أم دقمس عازف الطبلة الشهير، وأبكر أحمد، وعبد الرحمن دبكة، وآدم علي إسحق طلحة، وشريف عبد الله جامع، وأحمد حمدان، وآدم محمد بربرية، وإسحق عبد الله فريسكو، والأمين أحمد محمد، أحمد إبراهيم أبو سدر، ومحمد صالح ذا النون، وآدم محمد الحمري، كل هذا التعداد غيض من فيض مجموعة كبيرة جداً من أولئك النفر الذين قضى بعضهم نحبه رحمهم الله، ومنهم من ينتظر، نسأل الله أن يمد في آجالهم.
ويمضى (عروة) قائلاً: أما التطورات التي طرأت على الموسيقى، فقد كانت في عهد الإمام الشهيد الهادي المهدي طيب الله ثراه، والذي أمر بإكمال عدد أفراد الموسيقى ليصل الى خمسين فرداً، وقد حافظ بدوره على التكوين الجامع لأهل أبا الذين يهرعون لتلبية النداء فور سماعهم لطبول موسيقى الأنصار.
ويؤكد عروة أن هذه الموسيقى عزفت في أهم المناسبات الوطنية والدينية، وظلت كذلك، إلا أن العهود العسكرية عسفت وعصفت بكثير من قادتها، بل في عهد مايو 1970م قتلت الكثير منهم، وعذبت أكثرهم، ومن أشهر أولئك المعذبين بربرية وقاسم مكي وعبد الرحمن بريقع، إلا أنها عاودت الظهور بقوة وتماسك وظلت باقية إلى يومنا هذا.
وتمثل موسيقى شباب الأنصار امتداداً لجيل الاستقلال الذي تواصل مع جيل اليوم، إذ تم تدريب عدد من أبناء الأنصار بالجزيرة أبا ليحملوا تلك الراية الفنية الوطنية والدينية الباذخة التي تمثل الرئة التي يتنفس بها أهل الجزيرة أبا.
إلى الآن تدق طبول تلك الموسيقى في كل محافل الأنصار السياسية والوطنية والدينية والاجتماعية، إذ تتقدم كل الزيارات التي يقوم بها إمام الأنصار الصادق المهدي لكل منطقة من مناطق السودان، وتعزف في الاحتفال بأعياد الاستقلال، والمواكب في عيدي الفطر والفداء، وأيام المولد، وكذلك في أعراس ومناسبات الأنصار الاجتماعية.
عزف لأشهر القادة…
عزفت هذه الموسيقى لأعظم قادة الأمة الإسلامية والعربية، وعزفت في المحافل الاستقلالية، فقد كانت حاضرة في استقبال الزعيم جمال عبد الناصر، والملك فيصل، ووفد الحزب الشيوعي الصيني، واستقبال المبعوثين الأمميين، وظلت حاضرة في احتفالات حزب الأمة القومي ترحاباً بالسفراء الرسميين الممثلين للدول الشقيقة والصديقة، وتستعد الفرقة غداً الأربعاء لاستقبال رئيس الجمهورية المشير البشير في زيارته إلى الجزيرة أبا، حيث يشهد تجسيد معركة الجزيرة أبا الأولى على شاطيء النيل جوار غار الإمام المهدي.