أخبار

وكان يوماً بلا صباح

في اليوم الحادي عشر من شهر فبراير 1998م، سافر اللواء “الزبير محمد صالح” في مهمة سياسية لجنوب السودان، بدأت بالاستوائية وتنتهي بأعالي النيل.. اعتدت أن أكون مرافقاً له في جميع رحلاته.. ليس حرصاً مني فقط، وإنما بحرص – أشكره عليه – أن أكون معه!! وهو أمر كان يُسعدني.. فالرجل لا تشقى في صحبته، وإنما تسعد بصحبة نظيفة ومُنعشة وطيبة.. فهو يُسقط عن نفسه ما يُثقل الآخرين من تعقيد وبروتوكول إلا بمقتضى الضرورة.. هو على سجيته كما يفعل نهر النيل في رحلته شمالاً.. ولكم تعرضت معه لعدة مخاطر جراء الطيران المعطوب، الذي كانت كل رحلة فيه مخاطرة محققة.. شهدّت معه عدة حوادث انتهت كلها وبحمد الله بالعبارة (ربّك سلّم.. حمداً لله على السلامة).. وآخر رحلة لي معه كُنّا عائدين من عطبرة، شهدنا تخريج دفعة الخدمة الوطنية بإستاد عطبرة، وكان الوقت خريفاً.. تمّ التخريج باكراً قبل صلاة العصر.. ولأن المدفعية رقم أساسي في قائمة القوات المسلحة، فقد أصرّ قائدها الهمام أن نتناول وجبة الغداء معهم.. رغم أن السحاب المركوم كان يقول لنا: (أسرعوا أنا على وشك الهبوط)، وكنت أود أن أقول: (ارفعوه لنا في الطائرة..)، ولكن قد سبق السيف الكلام فامتدت المائدة.. ثم انتهى الغداء وما بين أذان المغرب فقط ما يُتيح إقلاع الطائرة!!
أقلعت الطائرة بمشقّة شديدة وهي طائرة (هليوكوبتر)، وبدأت تصارع السحاب.. نسيت أن أقول كان معنا د. “غازي صلاح الدين” وأحد الوزراء من أبناء الجنوب.. ربما “أنجلو بيدا”.. أو “أليسون مقايا” – (هل تصدق أن وزير الداخلية الآن في حكومة الجنوب “أليسون” هذا؟ ترى لماذا وكيف هذا؟) – بدأت عاصفة ترابية ونحن في منطقة (قرّي).. نزلت الطائرة في أرض فضاء تشبه (العتمور).. غرزت الطائرة (عجلاتها) في أطنان من الرمال.. ربضت لمدة ثم أقلّعت.. واقتلعت (عجلاتها) مثلما يفعل طبيب مبتدئ خلع (ضُرس العقل) لشاب يحتاج كمال نمو العقل.. تأرجحت وهي تحلّق مثل درويش يُقلد محترفي الدراويش!! بدأت تستقر من الاهتزاز الشديد.. فجأة انفجر السحاب غزيراً وفيه (بَرَد) ورعد وظلمة.. نحن نرى بعيداً إضاءة المصفى ونوراً شاحباً في (الجيلي) في منطقة ما بين (الجيلي) و(قرّي) هبطت الطائرة وسط بحر من الماء.. نعم هبطت.. ونعم كُلنا كان قد قرأ مائة فاتحة وأعلن شهادة الإسلام.. الأخيرة.
الطائرة هبطت والماء يحيط بكل شيء، والظلام مثل الماء يغشى كل شيء.. فكيف نكير؟
نسيت أن أذكر أن الأخ اللواء “الزبير” كان قد (غيّر) ملابسه العسكرية ولبس جلباباً وعمامة وشالاً و(مركوباً)، هذا المركوب كان يلامس بطن قدم “الزبير” لأول مرة (جديد لَنج)، وأظن أن الشاعر الحاردلو كان يعني في أغنيته (يا بلدي يا حبوب) مثل هذا (المركوب) الأنيق الأبيض!! أفتح قوس (“الترابي” لا يلبس حذاء إلا حذاء أبيض.. ليه..؟ لا أعرف.. ولكن قطعاً هنالك سر!) قفلنا القوس!!
قرر الشهيد “الزبير” – وقتها كان مشروع شهيد – أن ننزل من الطائرة ونسير مشياً على الأقدام بعد أن فشل أعضاء الحماية في الاتصال بالخرطوم بالـ (نُوكِي ووكي).. نزل “الزبير” ثم د. “غازي” ثم “بيدا” أو “أليسون”.. ثم أنا.. ثم البقية، وبدأ السير نحو (الجيلي).. المسافة أكثر من (16) كيلومتراً.. بالقطع (مات) المركوب الأبيض الأنيق من اختناق الرئة في الطين!! ولكنه ما يزال متشبثاً بقدمي “الزبير”.
وصلنا محطة السكة الحديد بـ (الجيلي).. المطر ما يزال يغسلنا بإصرار كأنما أراد أن يزيل كل دَرَن فينا.. لم نجد أحداً هناك.. المطر أجبر الجميع على تنفيذ منع (التجوّل).. بدأ أفراد الحرس محاولة إيجاد عربة.. وجدوا (دفاراً) تنطبق عليه تماماً كلمة (دفار).. هذا (الدفار) أجزم وأقسم إنه لم ينقل حتى في صباه شخصاً، ناهيك وهو في خريف صيف العمر.
جلس “الزبير” ود. “غازي” في المقعد الأمامي يسار السائق، وأنا و”بيدا” أو “أليسون” ومعنا مصور التلفزيون في ظهر (الدفار) الحار.. والمطر ما يزال يتساقط وبكثافة على رؤوسنا.. كان مندوب التلفزيون حريصاً على (الكاميرا)، فقد دثّرها وزمّلها بقميصه، الذي أنقذ (الكاميرا) كما أنقذ (قميص يوسف) “يوسف الصديق”..
وصلنا لمنزل الشهيد “الزبير” بالخرطوم بحري.. أصرّ “الزبير” على أن ندخل ونشرب شاياً ملبوناً وربما معه فطير.. كنت أرغب بشدّة في ذلك!! ولكن د. “غازي” أصرّ على أن نذهب!! ليه ما عارف؟!
وصلت المنزل كـ (دجاجة) باغتها (أبو العِفين) فنزع كل ريشها.. وسلمت منه بأعجوبة.
ثم جميعنا أصيب بالتهاب شديد الهتاف والحمى..
أعود لليوم الحادي عشر من فبراير 1998م و”الزبير” قضى اليوم السابق لذلك اليوم بجوبا.. في ذلك الصباح كان مفترضاً أن يزور ويكمل المهمة بأعالي النيل.. أعالي النيل من أحبّ مناطق الجنوب للأخ “الزبير” وكذلك لي.. هو لأنه قضى فيها سنوات من العمر المسؤول.. وتحديداً في (الناصر) – هل تعلم أنه أيضاً قد قضى فيها آخر أنفاس الدنيا؟ – وهو كان يحبّ نهر (السوباط) ويجيد السباحة فيه.. ويعشق طعم مائه وطيب أسماكه – هل تعلم أنه أرسل آخر زفير فيه؟
أعود وأذكر أن اللواء “الزبير” كان قد شهد عدة حادثات مع الطيران، واحدة منها في (الجفيل)، وجميع طلاب السودان الذين درسوا على أيامنا في المرحلة الابتدائية عرفوا صديقاً لهم في (الجفيل).. وعرفوا أن عندهم مشكلة عويصة هي شح الماء وأنهم ينتشلون الماء من بئر عميقة الأسحاق بدلو.. يجرّه عجل سمين..
أصاب الطائرة يومها عطب فهبطت (اضطرارياً) بأرض جُرُز في منطقة (الجفيل).. وما أن هبطت الطائرة (بنصف) سلام حتى رآها رائٍ فأرسل صيحة فهبّ أهل (الجفيل) جميعاً، وربما فيهم صديقنا د. “محمد عثمان” وجادوا بكل شيء.. واللواء “الزبير” يأسره المعروف بل يستعبده.. جاءت حملة الإنقاذ وعاد “الزبير” للخرطوم!!
لم يكن شيء يشغل اللواء غير كيف يسدد لـ (الجفيل) الدّين.. وتحديداً حل مشكلة الماء..
نسيت الأمر تماماً، إلا أنه هاتفني لأذهب معه وقد اكتمل مشروع ريّ (الجفيل) بحفر آبار ومعها رافعات للماء بدلاً عن العجل السمين!! وذهبت معه أيضاً بالطائرة المجنّحة بالخطر.. وقرأت ما أحفظ من القرآن ذهاباً وإياباً!!
كانت فرحة الناس غامرة جداً وكان منظر الماء يخرج طائعاً مختاراً (للكرجالة) مجبراً ومدهشاً.. وكانت (الصفائح) و(الجراكن) وكذلك (الجرادل) كلّها ترقص طرباً وفرحاً.
وعدنا للخرطوم واستقبلنا من استقبلنا (حمداً على السلامة)..
أعود ثانية ليوم (12) فبراير 1998م – تلاحظ أنني استطرد كلما ذكرت ذلك اليوم – معك حق..
في ذلك اليوم تمّ استبدال الطائرة (الهليوكوبتر) بالطائرة (انتينوف 26) وهي طائرة شحن.. يتم إعدادها واستبدال غرضها بإضافة كراسٍ لتكون صالحة لنقل الناس!!
العدد الذي سيرافق الشهيد (57) شخصاً!! الوجهة مدينة الناصر بأعالي النيل.
في ذلك اليوم، (12) فبراير 1998م، كنت بقاعة الصداقة أشهد مناسبة تقتضي حضوري.. الساعة تقريباً، قريباً من الواحدة إن لم تبلغها، صرخ في جيبي الموبايل – مصيبتي أني لا أتجاهل مطلقاً طالباً لي – (نعم.. أيوه أنا “سبدرات”.. اسمع تعال فوراً.. أيوه فوراً في القصر..).. (قفل) الخط..
حين يتم اتصال من (القصر) ويأمر بالحضور فوراً ثم يؤكد فوراً، فأعلم أنه نبأ حزين..
خرجت من قاعة الصداقة وفي رأسي مائة احتمال لمائة سؤال.. هل سقطت مدينة (جوبا) أم (واو) أو (ملكال)؟ هل اغتيل (فلان).. أم (زيد)؟ هل حدث بحدودنا الشرقية اختراق؟ أم اشتعلت حلايب من جديد؟ ثم لماذا فوراً هذه؟
اقتربت العربة من بوابة القصر الشمالية.. نزلت.. لم يرفع الحرس تلك التحية المتكلّمة بالسلاح رزماً وخبطاً بالأقدام..! دلفت داخلاً.. صعدت الدرج الأول عند مدخل مكتب السيد الرئيس وفي (البَرنَدة) جاءني “عبد الرحيم محمد حسين” مهرولاً كيتيم تيتّم عدة مرات.. عانقني مثل أم تعانق أخاها المكلوم بفقد ابنه البكر.. أجهش بصوت فيه ظلمات وبرق ورعد.. (يا سبدرات الزبير..)
لم أقل السؤال البليد (مالو الزبير؟) لأن بكاء “عبد الرحيم” أكّد كل شيء..
أصابتني رعشة الموت.. تمالكت خوف أن أموت.. بكيت بكاء الثاكلة وقد خافت عُلّو الصوت..
قررت أن أدخل المكتب.. على الباب قابلني (شيخ حسن) – هكذا سمعتهم يسمونه.. وكذلك صرت أفعل – نهرني بحزم فيه بعض عطف.. قبض ساعدي الأيمن من أعلى اليد قبضة قوية مثل قبضة (الكمّاشة) تقتلع مسماراً من خشب السيال.. كدّت أسقط.. تمالكت.. أخذ يجُرّني للداخل.. أدخلني المكتب.
داخل المكتب أمّة من الناس يبكون!! ممزقين ومكسورين لا يقدرون على شيء.
هو وحده الذي يُدير المعركة.. هو وحده الذي لم أره يبكي.. هو وحده الذي يقطع المكتب جيئة وذهاباً.. يعطي هذا زجرة وذاك أمراً وآخر مشواراً..
أدخلني المكتب.. أجلسني على كرسي أمامه منضدة.. أعطاني قلماً.. وورقة وقال:
(اكتب)!! ماذا أكتب؟.. (أكتب أن طائرة عسكرية قد سقطت بأعالي النيل وبها بعض القادة العسكريين وبعض المدنيين.. وسنواليكم لاحقاً بالتفاصيل).
جلست أكتب ما أمُلي عليّ بيد ترتعش.. وأكملت (المقطعية) ثم ها هو يُحضر ورقة ثانية..!!
(اكتب خطاباً يشرح الأمر.. سيقرأه السيد الرئيس – ثم استدرك – ليعينك الشيخ أحمد علي الإمام في كتابة الآيات) – لعله شكّ في معرفتي بما يعرف “أحمد علي الإمام”..
أواصل في المقال القادم

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية