*حينما كان ينتظر الناس منه أن يغني للموت والحزن في أمسية تأبين رفيقة دربه د.عفاف أمس الأول في المسرح القومي بأم درمان، غنى عركي للحياة..وللحرية والأمل والديمقراطية وللوطن وللشعب الذين خاطبهم بقوله (إنتو البقيتو لي بعد وفاة عفاف)..
* وعركي فنان تتجمع في صفاته مايراها البعض تناقضاً، ولكنها ميزات تجعل شخصيته تختلف عن البقية، فهو رقيق إلى حد يمكنه أن يبكي عندما يرى طفلاً مشرداً أو عجوزاً أنكره أهله، ولكنه أقوى من صادفت تشبثاً بمبادئه، وتطرفاً في حق الإنسان في أن يعيش بكرامته ..
{ “أبو عركي ” فنان بمواصفات خاصة، فهو بالإضافة إلى سماته الإبداعية وتأثيره القوي على المشهد الفني، مصلح اجتماعي بمواصفات أخلاقية وإنسانية، بالإضافة إلى تخيره الانحياز إلى قضايا الناس واهتمامه الكبير بزملائه الفنانين والعازفين والشعراء وحتى الإعلاميين وجيرانه، نذوب أسفاً ونلتهم أصابعنا ندماً أن يصبح بعيداً عن صناعة الحدث في الساحة الفنية.. نعم “أبو عركي” الآن بعيد عن أن يكون له التأثير الذي يجب أن يفعله.
{ قلت قبل ذلك إن حفلة واحدة من “أبو عركي البخيت” من شأنها أن تعيد الأمور في الساحة الفنية إلى نصابها الصحيح.. قد تكون أغنية واحدة مثل (بخاف) أو (واحشني) أو (عن حبيبتي بقول لكم) أو غيرها، يمكن أن تحيل أمسيات الخرطوم إلى حالة مزاجية نادرة يختلط فيها الشجن النبيل بالتنفيذ الموسيقي المتقن بالصوت المترع بالشجن، إلى قلعة حصينة تصفع بقوتها وجبروتها أغاني (الهبوط) و(السفح).
*وصدق ربما ماتوقعته حينما (هدر) صوت عركي في سماء أم در أمس الأول بعد سنوات من التوقف وهو يصدح بنغمات الحرية والحب والحياة والحقوق الإنسانية..
* بعبء حنجرته مثل عركي المشرِّح والناقل لهموم وطنه ..تجاسر على أحزانه الذاتية ليحيل الأمسية الى ليلة في حب الوطن..وهكذا هو قدر الكبار أن يكونوا عندما يريدهم شعبهم أن يكونوا..
*كان صوت عركي متهدجاً..حادثته قبل يومين..لأسأله عن مشاركته في أمسية التأبين وجدته مريضاً.. يختلط في صوته نبرة الحزن الذي يعيشه لفراق زوجته.. وألم المرض، ولكنه غلب كل ذلك وأنشأ يحدثني عن الناس ومواجع البلد.. ثم ذهب إلى (بروفات) ليلة أمس الأول..
*عندما بدأ عركي أولى أغنياته (غنوا معانا) بصوت لم تضعضعه عاديات الأيام..ولم تنتاشه كل صروف الدهر، همست في أذن جاري (إن هذا هو قدر الكبار..قدرهم في أن يكونوا رجالاً (يسدوا عين الشمس) حين تحتاجهم أوطانهم.. وحين يحتاجهم الناس .. هو قدر الكبار أن يئدوا أحزانهم الذاتية ويتجاوزا أفراحهم الوقتية لأجل الأفراح والأحزان الكبرى التي تتعلق بوطنه وشعبه..
*تكشف إلى حد كبير حجم الفراغ العريض الذي تركه غياب هذا المطرب الملتزم.. وكونه إحدى أدوات الوعي والاستنارة.. هو المطرب الوحيد، ربما في التاريخ السوداني القريب، الذي يتخلى بموقف مبدئي عن النجومية والأضواء والأموال لصالح ما يؤمن به..
مسامرات
صدمت من غياب أغلب الفضائيات التي غابت عن هذه المناسبة الشعبية الكبيرة التي تهم قطاعات كبيرة من الناس، نظراً لشعبية الراحلة وزوجها اللذان قدما نموذجاً ساطعاً في الحياة..ولكن القنوات البعيدة عن الناس وعن ما يريدونه منشغلون بالاحتفالات الباردة.. ومنصات أصحاب الياقات البيض