الماضي يعود!!
في زمان الرواية العربية قدمت القاهرة رواية (الماضي لا يعود) للكاتب “محمد عبد الحليم” صاحب (لقيطة) قبل أن يتقهقر مكان الرواية ويضعف الاهتمام بها في الأوساط الشبابية والطلابية، وتقضي الوسائط الحديثة على الأدب بسطوة قلة الأدب، والماضي القريب في التاريخ الإنساني من صراع سياسي واجتماعي وثقافي بات شيئاً يحتفظ بهم تحف التاريخ.. ولكن في السودان الآن نعود للأمس بدلاً من التطلع للغد وإحساسناً كشعب بفشل الحاضر جعلنا في حالة تمجيد للأمس بكل سوءاته.. وفي التعيينات الجديدة لحكومتنا بات التطلع للأمس طاغياً واستحضار الشخوص الذين فرحنا لذهابهم بزعم التجديد والتغيير يمثل عودتهم مرة أخرى إنعاشاً للآمال في النفوس وإحساساً يسري بأن هؤلاء فيهم العوض ومنهم العوض لتعويضنا خيبة الأمل في حاضرنا اليوم.
عاد “صلاح قوش” لمنصب المدير العام لجهاز الأمن الوطني، وبعودته رجت الساحة رجاً وتغيرت موازين السُلطة وفتحت الأبواب لعودة الطيور الما بتعرف ليها خرطة، وفي يدها أكثر من جواز سفر بعض الجوازات بريطانية وأخرى أمريكية.. وربما ألمانية.. ومن جهاز الأمن انتقل التغيير إلى الحزب الحاكم الذي جاء أيضاً بقيادة ظلت لمدة عشرين عاماً تتنقل من وزارة لأخرى، مثلما تتقافز الفراشات بين أزهار الخريف، وشعر قادة وقواعد حزب المؤتمر الوطني بأن اختيار د.”فيصل حسن إبراهيم” خطوة أولى لتجسير تعديل دستور البلاد.. وإلغاء لائحة الحزب التي تحدد سقفاً أعلى لتولي المسؤوليات التنظيمية (دورتين) فقط.. وتمرير ترشيح الرئيس لدورة 2020م، القادمة بعد أن اكتشف المؤتمر أن جعبته (خاوية) من خليفة (يسد فرقة “البشير”) في حالة الانتقال الطبيعي، أما الانتقال غير الطبيعي فأمره آخر.
إذا كانت عودة “صلاح قوش” تفتح باب المراجعات من غير الزعم بأنها تمثل عودة الوعي، كما يقول “توفيق الحكيم” فإن طاقات أخرى يشعر المراقب بأنها تعطلت في لحظة هياج عاطفي عن التغيير والتجديد وضخ دماء الشباب في شرايين الدولة والحزب.. خسرت الحكومة عقل سياسي وقائد مميز.. وشخصية اتسمت بالنزاهة.. وعفة اللسان مثل “علي عثمان محمد طه”.. وخسرت الدولة وحزب المؤتمر الوطني قيادة مثل “نافع علي نافع” بمدئيته.. وصراحته وشجاعته.. وتمت إحالة الاثنين إلى كرسي التقاعد من غير تدبر.. ولا رؤية.. وخسرت الحكومة وضعفت.. وخسرت الحكومة وزراء لهم عطاء.. ورائحة.. صنعوا مجد الإنقاذ أيام عسرها.. وخرجوا منها أيام يسرها.. واليوم تعيش الإنقاذ امتحاناً صعباً.. ومعركة بقاء بعد أن حاصرتها الأزمات والمشكلات.
لماذا لا يعود بعد عودة “قوش” وتعيين د.”فيصل” أسماء لها بريق وعطاء مثل “أسامة عبد الله” أفضل وزير أداءً في الحكومة السابقة.. وكيف تخسر البلاد طاقة عطاء جبارة مثل “كمال عبد اللطيف” الذي نحت على صخر التعدين حتى خرج الذهب من الأرض.. وخطط لبديل البترول.. وكان “كمال عبد اللطيف” وزيراً يشرف الحكومة عطاءً وتواصلاً مع الناس، وفي الحزب خرج “حسن برقو” بزعم أنه مساند لبعض أبناء عمومته ممن حملوا السلاح.. وصدقت الدولة الوشايات ودسائس المخبرين والبصامين الذين نجحوا في إفساد العلاقة يوماً ما بين “البشير” و”صلاح قوش” مثلما أفسدوا علاقة “حسن برقو” بقيادة الدولة، ولأن “برقو” صاحب عطاء وبلاء عاد من خلال نافذة الرياضة، فلماذا لا يعود من أبواب الحزب ليقطف ثمره وعطاءه وعلاقاته.. ولماذا لا يعود د.”عبد الرحمن الخضر”.. ويعود د.”عيسى بشري” الرجل الذي يعطي في صمت.. ويحمل بندقيته يوم الكريهة لسد الثغور، ولماذا لا تعود الطيور جميعها لتغرد في أغصانها.. بدلاً عن حالة التشرذم الحالية والانتظار والترقب والتأمل.