محمود محمد علي: (35) عاماً في صناعة الفُلوكات الحديدية
يرقد القارب الصغير، أو (أبو رفاس) كما يحلو للعامة تسميته، من قاطني شواطئ النيل العظيم، منكفئاً بالمنطقة الصناعية ليأخذ شكل الاعتدال مع رفاقه من الدواب من ذوات الأربع عجلات وما صنع الآسيويون.
كان غريباً عليّ هذا المشهد، فما عهدت في بنطونات الحديد السودانية، اللجوء إلى (مشافي) المنطقة الصناعية بحري التي عهدناها مركزاً طبياً ضخماً ومهماً لتطبيب قلوب السيارات المعطوبة ورتق أحشائها المحروقة، لكن ما الذي يجعل (البنطونات) تستنجد بورشها للبحث عن روشتة علاج تستعيد بها صحتها وعافيتها؟
شاكوش نيلي
ولأن لكل دابة آفة من جنسها، فقد قضت الفلكات الحديدية على المراكب الخشبية التي أطاحت بدورها على المعديات العتيقة، وفي ظل اللهث اليومي المحموم لمواكبة هذا التطور والحداثة، أنشأ العم “محمود محمد علي” ورشة لصناعة الفلوكات الحديدية بالمنطقة الصناعية، واعتبر الرجل ورشتة هذه الأولى من نوعها بالخرطوم كلها، ودلل على ذلك قائلاً:
(35 سنة) وأنا شغال هنا يا ولدي، ثم أضاف متحسراً: لمن أضاني بقت تقيله من دقدقة الشواكيش (كو كرو، كع كرع)..
لم يتخصص العم “محمود” في صناعة (الفلوكات) فحسب، فالرجل يتوفر على خبراته ومهارات عظيمة ودربة كبيرة في التعامل مع الحديد، تتجاوز تلك الفلوكات صغيرة الحجم، ولكن السوق داير كدا! على حد تعبيره.
أيدٍ ماهرة لا تجد دعماً
في بداية حياته العملية بورشته الشهيرة صنع العم “محمود” بنطوناً كاملاً العدة والعتاد، ولكن سرعان ما انحسر الطلب على هذه الدابة النهرية العظيمة، وبالتالي توقف عن صنعها كيلا يتعرض إلى خسائر جسيمة فتنهار ورشته التي بذل في سبيلها كل ما يملك ، ويقول في ذلك: الفلوكات أصبحت الأكثر طلباً، ثم أشار بسبابته لإحداها مستطرداً: هذه الفلوكة التي تراها أمامك، جابوها لي ناس من ود رملي للصيانة، وها هي الآن تبدو وكأنها جديدة، فنحن نحيي (الحديد وهو رميم)، وإذا ما وجدنا من يدعمنا ويشجعنا فسوف ننهض بهذا الضرب من الصناعة ونجعل من السودان إحدى أهم الدول المُصنعة للقوارب في منطقتنا.
البحر كلو حديد
سألت العم “محمود” عن عدد الفلوكات العاملة بنيل الخرطوم، فقال مبتسماً: (البحر دا من شمبات لحدي الشمالية كلو حديد). وأضاف: في سبعينيات القرن الماضي ذهبت إلى ألمانيا مرافقاً لابني المريض بـ(القلب)، وعندما نفدت أموالنا قبل إكمال العلاج، بحثت عن عمل هناك، فـ(اشتغلت لحّام) في مصانع القوارب واللنشات مقابل (ماركات قليلة) في اليوم، ولكن عدت من هناك بخبرات لا مثيل لها، وأصبحت أكثر (اللحامين) مهارة وحذقاً في البلد (كلها).
ورغم السنوات الطويلة التي أفناها العم “محمود” في صناعة الحديد، إلاّ أنه ما زالت في الرجل قوة وعزيمة لا تتوفران في الشباب، فلا تأخذ الفلوكة الواحدة بين بيديه أكثر من شهر واحد، حتى تبحر في النهر، فضلاً عن تميزه بصناعة جميع الموديلات مستفيداً من الخبرة التي اكتسبها على أيدي الألمان الذين دربوه فأحسنوا تأهيليه. ويفتخر العم “محمود” بتاريخه الصناعي الطويل، ولذلك دائماً ما يعود بذاكرته إلى الوراء مفتخراً بما صنعت يداه، فها هو يبتسم ويقول لي: “أنا قبل (25) سنة صنعت بنطون سد الشارع دا كلو”.
وحين تقدم “محمود” بطلب تصديق لورشة على شاطئ النيل حتى يوطن صناعته، وهذا مبدأ تنموي معروف في كل العالم، وحتى يخرج من الحصار الذي تفرضه على (ورشته الحالية) بالصناعية بحري أرتال من السيارات والورش الأخرى، لم يسمعه أحد ولم يلتفت إلى طلبه مسؤول حصيف يعرف قيمة الصناعة وأثرها على الاقتصاد، ولا ندري أي شاكوش ضرب بقوة على (طبلة) أذان المسؤولين فصمها عن الاستماع بجدية لهذه المناشدات.
لكن الأسطى الحاذق”محمود” الذب لا تفتر عزيمته ولا يدخله اليأس، ولا يقنط من رحمة الله، تقدم بطلب آخر لحكومة (الجنوب) قبل الانفصال، لأنه يعلم أن هذه المهنة نادرة هناك، وهي بالتأكيد نادرة في الشمال أيضاً، ولكننا لا نهتم، ولا أحد يستجيب، والرجل لم يفقد الأمل بعد، ومازال ينتظر.