أخبار

خربشات

(1)
رمى “أبكر كركاب” بـ(بقجة) الطعام وعدة الشغل التي كان يحملها على ظهره، ونظر ملياً لحوض تخمير الطوب إيذاناً بموسم عمل شاق ومضنٍ لكنه لذيذ حينما يتذكر قضاء يوم (الخميس) من كل أسبوع متبطلاً عند الفداديات في “كمبو واحد” متجاهلاً وصية عمته حاجة “عائشة” التي وضعت يدها في الحجر الأسود وصلت الصبح والعشاء بمسجد الرسول “صلى الله عليه وسلم” بالمدينة وهي تقول لـ”كركاب”: (سألتك برب العباد أن تتوب من المريسة والعيشة التعيسة).. وفي إحدى المرات دبرت حاجة “عائشة” قصة لتخويف “كركاب” من التردد على الإندايات في أيام الأسواق ولقنت أبناءه قصة من خيالها وطلبت منهم قصها على والدهم، فقال “أحمد” وهو عائد من السوق في ذلك اليوم الصيفي الحار: (والله يا أبوي الليلة حصلت حاجة عجيبة).. حصل شنو؟ هنا تدخل “إسحق” قائلاً: (حاجة مؤسفة جداً وفضيحة كبيرة كل القرى الأن بتتكلم عن فضل المولى العربي”.
_ قال “كركاب”: ما لو فضل المولى؟
_ يا أبوي دي حاجة كعبة وفضيحة النسوان بيضحكوا في فضل المولى حتى السنة الجاية.
_ قال “كركاب” بحسم لمعرفة ماذا حدث من فضل المولى:
هل سرق غنم “بخيتة”؟؟ أم قبضوه في بيت ابن عمه؟
_ قال “إسحق”: الليلة فضل المولى العربي برأسه الخفيف وعدم احترامه لنفسه ولأولاده وبناته مشى الإنداية وشرب مريسة وعسلية وأكل لحم التيوس والغنم المسروقة، سكر في وسط السوق تبول في جلابية الدبلان وتبول في جسده وسقط في نيمة “عثمان العجلاتي”.. والناس تنظر إليه مشفقة وشامتة.
أدرك “كركاب” أن رسالة أولاده وصلت، قالها في سره (أنا كركاب مطره بلا سحاب).
انتظر الأولاد ردة فعل والدهم بإعلانه التوبة والإقلاع عن شرب الخمر، وقال “إسحق” لشقيقه: الليلة أبوي بخليها وبريحنا، لكن “كركاب” قال: والله دي السكرة الدايرها أنا ذاتي وما لاقيها.
{ أمضى “كركاب” أسبوعين في تاية صناعة الطوب، كان ورفاقه الأربعة محل إعجاب كل تجار الطوب بمنطقة ديم المشايخة شمال سنار التقاطع ببضع كيلومترات، يعملون بنظام ورديتين صباحية من الصلاة التي يؤدونها خلف “كركاب” الذي يحرص على قراءة دعاء صلاة الفاتح وهي من أوراد وأدعية الطريقة التجانية المنتشرة في مناطق واسعة بغرب أفريقيا، وحينما يبدأ في قراءة الدعاء تفيض عيون “هارون” بالدموع و”كركاب” يردد بصوت عالٍ: (اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق الهادي إلى السراط المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم).
بعد الصلاة يبدأ فريق العمل في صناعة الطوب ويتغنى الأربعة بأغانٍ من التراث: (عيال أم اسقدوا اندسوا ورقدوا)
وعند منتصف النهار يجمع “أحمد دهب” وهو أصغرهم سناً الحطب ويشعل النار لصناعة العصيدة، وتتعدد أنواع الملاح (لوبيا)، (شرموط أبيض)، (شرموط أحمر) و(ملاح أم شعيفة)، وأحياناً ملاح (كجيك) وقد راقب صاحب الكمينة استهلاك مجموعة “كركاب” لكميات مضاعفة من دقيق الدخن مقارنة بنظرائهم في المجموعات الأخرى، لكنه في ذات الوقت وجد إنتاجهم في أسبوع واحد يعادل إنتاج مجموعة “سيد أحمد الشايقي” في شهر كامل.
مجموعة “كركاب” اختارت يوم (الخميس) مغادرة البحر إلى المدينة.. لبس الجميع عراريق التترون ووضعوا الطواقي الحمراء على الرؤوس واتجهوا لسنار التقاطع، ولكن قبل وصولهم السوق كانت المدينة تعج بالمطاردات بين الشرطة والمتظاهرين من الطلاب والطالبات الذين يهتفون بلغة لم يفهمها “كركاب” (الديمقراطية مطلب شعب) فسأل رفيقه “أحمد دهب”: الديمقراطية دي شنو؟
قال “أحمد دهب”: كركاب أخوي كلام الجلابة دا ما بتعرف لينا.. أظنوا الديمقراطية حافز بتصدق به الحكومة للموظفين.
فجأة داهم البوليس وانهال عليهم بالضرب والطلاب يهتفون (مقتل طالب مقتل أمة.. والطلاب طلائع الشعب.. لن يحكمنا الجيش والعسكر).
تم وضع “كركاب” و”أحمد دهب” في مؤخرة عربة الشرطة، بينما هرب رفقاؤهم من قوة الشرطة التي أخذت تقبض على المتظاهرين عشوائياً وترمي بهم في قعر الحراسات التي امتلأت بالطلاب والرجال العابرين.. بدأت التحقيقات مع “كركاب”: طبعاً إنت من الحركات المسلحة؟ كيف وصلت من دارفور لتشارك في هذه التظاهرة؟ من دفع لكم الأموال يا مجرمين.. اتكلم عامل فيها راسك كبير.. الليلة تعرف حاجة، قايلين البلد فوضى تحرقون مكتب المعتمد وتخربون ديوان الضرائب وتهددون السلام الاجتماعي وتريدون تخريب منشآت الشعب.. الويل لكم تعال قابل جنابو، اسرع، وانهالت السياط على الظهر الذي أرهقته صناعة الطوب.
(3)
{ أمضى “كركاب” ليلته الطويلة في حراسة مشددة.. حوش كبير تم تخصيصه للمشاغبين والمتظاهرين ولم تبدأ الشرطة تحقيقاتها مع المتهمين بعد إطلاق سراح كل الطالبات باستثناء بعض بائعات الشاي المتحفظ عليهن بتهمة المشاركة في التظاهرات التي حض عليها بعض المحسوبين على الحزب الحاكم بعد قرار وزير الزراعة بإلغاء اتحادات المزارعين ذات الطبيعة المطلبية، واستبدالها بجمعيات الإنتاج، وتأثر قطاع محدود من المستفيدين من اتحاد المزارعين السابق، فقاموا بتحريض الطلاب والطالبات للمطالبة بإلغاء الرسوم الدراسية وتحسين بيئة الدراسة، و”كركاب” تم حبسه مع المتظاهرين وهو لا يميز بين اتحاد المزارعين واتحاد الخضر والفاكهة.. لم تغمض عيناه طول الليل وهو يفكر في أسئلة العسكري عن علاقته بحركات دارفور المتمردة، هل مشاركته قبل عامين في قوات الدفاع الشعبي والقتال بجانبها قد جلب له كل هذه المصائب؟ تم حرمان “كركاب” من (التمباك) والسجائر، ولم يفكر في خميسه بقدر تفكيره في الخروج من الحراسة.. تذكر وصية الشيخ وصلاة المضطر.. حاول الحصول على الماء للوضوء ولكن العسكري زجره بعنف وعاد وجلس القرفصاء.
جرت اتصالات بين التاجر وسلطات مدينة سنار عن عماله الذين تم احتجازهم ضمن المشاغبين والمعارضين الذين خططوا لإثارة الفوضى في المدينة، ويعدّ التاجر صاحب كمائن الطوب من أعضاء الغرفة التجارية وأعضاء المجلس التشريعي وله أيادٍ بيضاء في مشروعات التنمية بالمحلية.. قاد سيارته البوكس منذ الصباح إلى مدير الشرطة من أجل البحث عن “أبكر كركاب” وزميله الآخر “أحمد دهب”.
ركن السيارة بالقرب من مكتب المدير، ترجل يسبقه عطر باريسي وبيده مفاتيح السيارة.. لم يعترضه أحد رغم وجود كل الضباط في الاجتماع التنويري اليومي لتوزيع المهام والاستماع لتوجيهات المدير، الذي شدد على ضرورة إطلاق كل المحتجزين وتجاهل توجيهات رئيس لجنة الأمن وهو المعتمد.
_ تفضل يا سيد.
_ لا أنتم في اجتماع.
نهض المدير وعانقه في ود وحميمية، وسأله: مالك إن شاء الله خير؟
_ خير يا سعادة العميد جيت لعمالي.
_ عندك عمال هنا ديل كلهم عساكر.
_ لا عمالي تم القبض عليهم في التظاهرات.
_ العميد: عمالك ظاهروا كيف؟
_ لا هم خرجوا من كمائن الطوب لقضاء (الخميس) في “كمبو واحد” فقبضت عليهم مع المتظاهرين وهم الآن معكم في الحراسة”
_ (ضحك) العميد: يعملوها الجماعة يضيع فيها المساكين؛ ديل ذنبهم شنو؟ والله الظلم ما بخلي البلد تمشي قدام.. قالها العميد وضحك: عمالك، أسماؤهم؟
_ واحد اسمه “كركاب” والآخر “دهب”.
نادى العميد على الصول “يحيى” لإحضار “كركاب” و”دهب”
الصول لم يقم بالمهمة بنفسه، أصدر توجيها للعريف “كوة مصران” بإحضارهما للقائد.
نادى العريف على “كركاب”: كراب كراب قوم على حيلك، لم يجد كراب ونادى على “دهب” فقال ثلاثة من المحتجزين: نعم نعم.. طلب من ثلاثتهم الحضور للمساعد وهو يشير إليهم بالوقوف كويس وخفض الرأس..
_ سعادتك لم نجد “كراب”، قال المساعد: “كركاب” وليس “كراب” يا عريف.
وقف الأربعة أمام القائد، الذي سأل عن الذين أتى بهم حضرة الصول فقالوا: كلنا نحمل اسم “دهب”.
_ ضحك العميد إذن جميعكم تم إطلاق سراحكم. ولم يصبر “كركاب” وسأل العميد: وأنا يا جنابو؟ إنت ذاتك أركب البوكس أطلقنا سراحك.
شاهد “كركاب” العسكري الذي اتهمه أمس بمناصرة التمرد يقبع في الحراسة لكنه لم يسأل عن سبب حبسه.. ركب مع التاجر وأخذ يتذكر أغنية ترددها نساء الحلة لصديقه “إسحق” الذي يلقب بـ”اساقاي”:
بمشي دار صباح ما بقى ليه
هي اساقاي مالكم عليه
{ وحتى (الجمعة) القادمة إن شاء الله.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية