أخبار

خربشات

(1)
الزنبقات السود في قلبي
وفي شفتي اللهب
من أي غاب جئتني
يا كل صلبان الغضب
بايعت أحزاني وصافحت التشرُّد والسغب
لا ترج من الهمس
ولا ترج الطب
هذه الكلمات كانت صرخة لـ”محمود درويش” من ديوان “أوراق الزيتون” كتبها عام 1964م، والفتى الرقيق ينفجر ثورة بركانية من أجل وطنه الذي نظر إليه وحدَّق في خصلات شعر فلسطين وتفرَّس في وجهها وأحبها مثل أي طفل يدنو بقلبه وجسده إلى أمه التي ترضعه حليب الأم الذي لم يعبأ حتى اليوم أو يباع في قارورة، وأظنه الشيء الوحيد الذي لا يباع بالمال، مثلما يباع الدم والكلى وبقية أجزاء جسم الإنسان.. و”محمود درويش” ليس رمزاً للمقاومة فقط، ولكنه أصبح تاريخاً في إنسان وإنساناً في التاريخ، قاوم وقهر المستحيل.. ورفض الإذعان لكل المغريات حتى مات وفي خفقات قلبه فلسطين تنبض بالسلام والحرية.. وقد نهش قلب الفتى في ريعان الشباب تدافع المقاتلين ذوداً عن الوطن السليب.. وعاش “درويش” حتى بدأت علامات التنازل الصغرى قبل أن تسود التنازلات الكبرى.. ويصبح الاستسلام شجاعة.. وقبلة “عرفات” في جبين “شارون” إقداماً.. وعصامية وموقفاً.. ومات “محمود درويش” مرتين.. حينما أصبحت بلاد الزيتون ومدينته التي ولد فيها البروة عام 1941م، تحت قبضة الطغاة.. ومات حينما تخلى العرب عن فلسطين في الشتاء وأطفالها في المعسكرات يتوجعون وتمنحهم واشنطون الحليب والأرز وبعض الطعام المعلَّب.
وبعد أغنيات صديقه “جبران تويني” عام 2006م، وهو في المنافي لم يتخاذل مثلما تخاذل العرب عن فلسطين شدة الحنان إلى قريته البروة ولأمه حورية ولأرض الأنبياء ومهد الرسل والديانات.. أرسل تنهيده حارة لبيروت وهو يمسح بيده اليمنى عيناه المتعبتين:
بيروت اليوم مدينة تتألم  وتتنهد
بحسرة كبيرة أنها المدينة التي أعطتنا
منديلها الجميل وألبستنا معطفها الدافئ
تركناها بأجسادنا فقط وها أنا اليوم
كما في السابق أحمل حريتها في قلبي.
(2)
في سبعينيات القرن الماضي والنفوس كبيرة والآمال عريضة والمدارس الابتدائية تنفح في النفوس حب القراءة والإطلاع، ونحن القادمين من الريف والقرى إلى الحواضر نتفرَّس في القطار.. والعربات الضخمة القادمة من الخرطوم.. عربة ضخمة كتب عليها (أسبرو) وعربة أخرى كتب عليها (أندروس) إنها شركات أدوية.. ننظر إليها بدهشة.. عند خروجنا من المدرسة لمدة ساعة للإفطار.. نتجوَّل في سوق الدبيبات وجيوبنا خالية من المال.. أبناء تجار المدينة يأكلون الطيبات من الطعام ويلبسون الفاخر من الثياب.. ولا يغشاهم القمل في المساء ولا (المرقود) يسرح ويغرز سنانه في أجسادهم الطرية.. ورغم كل ذلك نقرأ الشياطين الثلاثة عشر.. ولم نفكِّر يوماً لماذا لا يصبحون أربعة عشر شيطاناً، مثلما أشار لذلك زميلنا “حمدوك الصادق حمدوك” النابغة والذي قال: إن مدير المدرسة حينذاك الأستاذ الراحل “طه أبو النجا” هو الشيطان الرابع عشر.. و”طه أبو النجا” المربي والأب كان قاسياً جداً مع المخطئين ورقيقاً مع الطلاب النابغين.. عصبياً في ساعة.. ثم تصفو نفسه ويداعب صغاره من التلاميذ بلطف، يوم مغادرة “طه أبو النجا” للدبيبات عبر القطار القادم من غرب السودان في ذلك الزمان كنا نحسب أن كردفان ليست من غرب السودان.. بكت الدبيبات وذرفت الدموع لعودة “طه أبو النجا” إلى مسقط رأسه في بربر شمال السودان.. في المدرسة الابتدائية عرفنا “محمود درويش” وقرأنا همساً أشعار “نزار قباني”.. و”محمود سامي البارودي” وتعلَّقت نفوسنا بفلسطين وثوار الجزائر..وكنا نغني مع “عبد الكريم الكابلي”:
 أغلى من لؤلؤة بضة
صيدت من شط البحرين
لحن يروي مصرع فضة
ذات العينين الطيبتين
كملابس جندي مجروح
كعناق صديقين حميمين
وما كنا ندري أن تلك الأغنية كتبها شاعر بحريني يدعى “علي شريحة” إلا حينما جاء القطار بزهرة الأغاني التي نحملها داخل حقائبنا القماشية ونهمس بها ونباهي بحفظ أغنيات “وردي” و”عثمان حسين” وفي الجمعية الأدبية التنافس على أشده بين الطلاب الموهوبين في القراءة على أشعار “محمود درويش” و”نزار قباني” الذي حرمنا أحد الأساتذة من غزلياته بزعم إنها تخدش الحياء وتنهش في جسد المرأة.
(3)
كانت المدارس الثانوية والأولية في ذلك الزمان (جامعة).. تعلَّمنا في الحاجز المتوسطة التمثيل والدراما.. وإصدار الصحف الحائطية يوم احتفال القرية بعيد الاستقلال، وقد حافظت قريتي الحاجز على مثل هذا التقليد حتى اليوم.. والمعلمات والمعلمين في حاجز القناوي لا يزالون يجمعون المال من السوق يختارون أصدقاء المدرسة حتى تحتفل القرية بعيد الاستقلال، بينما المدن يعتبره سكانها عطلة مثل عطلة بسبب هطول الأمطار أو برودة الطقس أو تفشي مرض السحائي.. والحاجز الواقعة جنوب الدبيبات كانت تنافسها في كل شيء حتى جمعت الأيام بينهما.. في بحثي عن الأوراق القديمة والمستندات في الحقائب التي خنقها الغبار في منزل الأسرة بقرية طيبة الأسبوع الماضي، عثرت على قطعة أدبية من الزمان القديم.. نقلتها من مجلة العرب وقدَّمتها في ليلة أدبية ونحن نغادر الحاجز المتوسط إلى كادوقلي الثانوية.. القطعة الأدبية كانت أشهر وصية لأديب عربي إنه “محمود درويش” أوصى الناس بجنازته يوم رحيله.. تذكَّرت أن أستاذي في المرحلة المتوسطة “أحمد تاور” قد أهداني مبلغاً من المال اشتريت به سروالاً وأنفقت الباقي على زملائي في مقهى الراحل “فضل الله” الشهير بـ(الزبيرتو).. القطعة الأدبية التي كتبها “درويش” كوصية لجنازته تقول (أريد جنازة حسنة التنظيم يضعون فيها الجثمان السليم لا المشوه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة ولو كانت مقتبسة من بيت شعر لا تدل ألفاظه على معانيه محمول على أكتاف أصدقائي وأصدقائي الأعداء.. أريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر ولا أريد اللون الوردي الرخيص ولا البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت، أريد مذيعاً قليل الثرثرة قليل البحة قادراً على ادعاء حزن مقنع يتناوب مع أشرطة تحمل صوتي بعض الكلام. أريد جنازة هادئة واضحة وكبيرة ليكون الوداع جميلاً وعكس اللقاء. فما أجمل حظ الموتى الجدد في اليوم الأول من الوداع حين يتبارى المبدعون في مدائحهم. فرسان ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، وأبرياء ليوم واحد.. لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد.. حسناً، وأنا بلا زوجة ولا ولد، فذلك يوفر على بعض الأصدقاء جهد التمثيل الطويل لدور حزين لا ينتهي إلا بحنو الأرملة على المعزّي). وحينما انتهيت من قراءة تلك القطعة النثرية التي كتبها “محمود درويش” عام 1982م دوت الساحة بالتصفيق.. فهل كان التصفيق لـ”محمود درويش” كاتب القطعة النثرية؟ أم لملقيها على رؤوس الناس الذين جاءوا من القرى البعيدة احتفاءً بذكرى الاستقلال؟
 تلك أيام قد طواها الزمان وبقيت مجرَّد ذكريات نجترها في مثل هذا اليوم وقد أدبر العمر وأقبل القبر.. وكل جمعة والقراء بخير.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية