أخبار

خربشات

(1)
كان الليل قد أرخى سدوله على مدينة كسلا.. ونسمات الخريف الذي تأخر، ولكنه حتماً سيأتي، تغمر المدينة الساكنة برائحة الدعاش والمطر وتنذر السماء بالغيث المنتظر.. وكان صامتاً يتأمل الدنيا.. كان موعد مغادرته قد أزف.. يمشي الهوينى كنسر هده التعب وارتخت أجنحته من كثرة التحليق في السماء.. يفتح صفحة من ذكريات القوات المسلحة.. وأيام  مايو وسنوات خصبها قبل أن يطل جفافها يحدق في انقلاب يوليو 1971م، وقد كان “أحمد طه” الضابط الذي ينتمي إلى اليسار متهماً بموالاة “هاشم العطا”.. ومحنة اليسار في ذلك الزمان الغابر كانت مثل محنة “فتحية” زوجة “كوامي  نكروما” وهي مصرية ثورية خاضت تجربة الانتماء العاطفي في بواكير صباها لتنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أيام “جورج حبش” و”وديع حداد” و”فتحية” بثوريتها وعنفوانها وجمالها تزوجت من “كوامي نكروما” رئيس غانا الذي جاء إلى حكم الدولة الأفريقية الغنية بالذهب والماس والكاكاو على سنان الاشتراكيين الأفارقة.. دفع “كوامي نكروما” مهراً لـ”فتحية” المصرية مائة كيلو من الذهب لتعبث السلطة بالاشتراكيين المتقشفين، وحينما ذهب “نكروما” من الدنيا والسُلطة وتمت استضافتها في الخرطوم ومعها أبناؤها الثلاثة.. كانت متنازعة الوجدان ما بين أكرا التي منحتها كل شيء والقاهرة حيث المنشأ والأصل.. و”أحمد طه” الضابط الصغير كان قلبه معلقاً بالحزب الشيوعي وانتمائه القومي للجيش يأخذه للوقوف مع “جعفر نميري”.. وما بين الانتصار للفكرة أو النظر للمصلحة اختار “أحمد طه” دعم “جعفر نميري” والولاء لمايو والتشبث بهيكل السُلطة ونبذ الحزب.. وتلك حالة انفصام وامتحان ضمير وأخلاق تعرض لها الشيوعيون والإسلاميون في تسعينيات القرن الماضي، حينما افترقت دروب (الجنرال والشيخ).. ذهب الجنرال للقصر والشيخ للحبس.. فاشتجر التلاميذ بين السجن والقصر.. والذهب والحصى.. والنعيم والشظف.. والشبع والجوع.. ولكن “أحمد طه” الفتى الذي نشأ في مدينة الأبيض بكردفان.. كان وسيماً.. ورشيقاً وقارئاً مثقفاً.. عسكرياً تقضي قواعد المؤسسة الراسخة إطاعة القائد الأعلى حتى لو أدى ذلك للمجازفة بحياته.. ولكنه في المساء يقرأ قصة الأم لـ”مكسيم غوركي” ويقرأ لـ”البرتو مورافيا” امرأة من روما.. ويغرد مع ابن الشرق بازرعة (أكتم الغيرة الفي قلبي وأطوي جرحي في الحنايا) ، ولا تتردد خطى الشاب من السهر حتى الصباح في حي ود نوباوي مع “توفيق صالح جبريل”.. وفي يوم الخميس يمضي لمنزل “الخاتم عدلان” وبعض العتاب لـ”عمر مصطفى مكي”، الذي وصف “عبد الخالق محجوب” بأنه (أناني) مثل شلوخه الظاهرة على خده.. و”أحمد طه” يتذكر أيامه في التوجيه المعنوي وكيف صنع مع رفيق دربه “محمود قلندر”، ربيع صحيفة (القوات المسلحة) حتى ميلاد الإنقاذ، التي لفظته إلى كرسي المعاش، كما لفظت “محمود قلندر” إلى الولايات المتحدة الأمريكية مبعوثاً لنيل درجة الدكتوراه، وعند العودة تم الاستغناء عن خدماته فتخطفته ماليزيا وجامعاتها التي تبحث عن النجباء والأذكياء.
(2)
(ساهرت بيكم) .. قالها “أحمد طه” وهو يحدثنا عن تجربته في مايو.. والحزب الشيوعي ومحنة انقلاب “هاشم العطا” ويتحسر على أن النابغة والإذاعية “لمياء متوكل” قد فتحت قارورة عطره ونفحات تاريخ لم يدونه التاريخ، ولكنها توقفت عن التسجيل لشيء ما.. لا يعرف سره “أحمد طه” رغم أنه خبير بدروب الإعلام، وبدأت الحسرة على “النور أحمد النور”.. كيف لكنز بهذه القيمة المضافة يبقى بعيداً عن دائرة التوثيق.. وهو شاهد عصر على قيام المدارس الأدبية الفكرية التي كانت تعبر عن اتجاهات فلسفية في الفكر الاشتراكي مثل مدرسة (أبادماك) التي انتمى إليها “أحمد طه” ومدرسة (الغابة والصحراء) التي أثرى “النور عثمان أبكر” و”ود المكي” أدبياتها.. حينما يتوغل الرجل الأديب في بحر الشعر يروي “أحمد طه” قصصاً لأغنيات خالدة ولأشعار أدباء بلادي.. يطلب كوباً من الماء البارد ليطفئ لهيب الشوق لأصدقاء انصرفوا وأخيراً لحق بهم طائر الشرق الجميل.. يتكئ “أحمد طه” على يده اليمنى.. ويقول كيف أنسى رفيق الدرب الجميل “عثمان خالد”.. ويضحك الجبهجية، فيهم أشياء جميلة لم يحتكروا كل شيء، تركوا لنا الأدب نتجادل ولا نتخاصم، ولكن “أحمد طه” يتذكر مقاطع “لعثمان خالد” ويذرف دموعه القريبة:
نعيش يا غالي لا كلمات ولا لقيا
منو البحمل فراق عينيك
منو البقدر بدون نظراته
يبسم للحياة ويحيا.
يهيم في مسارب الثقافة والإبداع.. ويطلب من السائق أن يعود به إلى نادي “الميرغني”.. وهناك تنتظره القهوة.. والأصدقاء.. كل مدينة كسلا تحب “أحمد طه” كل بطريقته الخاصة.. الجنرال حينما يأتي متأخراً وفريق توتيل متقدم على القاش بهدف.. تطل الفرحة من عيون الناس لرجل أحب الرياضة عشق المدينة التي أنجبت “مهند الطاهر” وابن الأبيض الأسمر “مجدي مرجان” و”محمد حسين” كسلا.. و”أوهاج” وأنجبت “هلاوي” و”بازرعة” و”الحلنقي”.. واحتضنت المثقف الرائع والأديب والباحث والراحل فجأة “أحمد طه” (الجنرال).
(3)
حينما أعلن قيام الدورة المدرسية في كسلا كان الراحل “أحمد طه” هو الساعد الأيمن للوالي “جمَّاع”.. وانتقل “أحمد طه” من الأبيض حيث النشأة الأولى وبواكير الصبا بعد أن كان له سهم  في نجاح دورة الأبيض التي أصبحت معياراً لنجاح الدورات المدرسية من عدمها.. إذا اقتربت أي دورة من الأبيض كان ذلك بمثابة النجاح.. ولكن”أحمد طه” كان يقول عن دورة كسلا القادمة إنها إطلالة الشرق بكل ثرائه المعرفي ونبض الصوفية.. وإشراقات تلاقح أفريقيا الشرقية مع أفريقيا الغربية، وكسلا مدينة التمازج الثقافي جاءها الهوسا من الغرب والبني عامر الهدندوة من الجبال.. وجاء الحباب من مرتفعات اريتريا، وجاء الرشايدة من اليمن وجزيرة العرب وجاء “أحمد طه” بكل خبراته في العسكرية والثقافة والصحافة والتنظيم الدقيق للاحتفالات.. ولكن الموت تخطفه بغته.. وترك في النفوس حسرة وفي القلوب لوعة، وفي العيون دمعة.. وجفت حروف الرثاء وماتت أبيات شعر المآثر ولم يبقَ إلا قول “عبد الله حمد شوارني”
راح الما خان وطنو وعاقه
وراح المو رفيق مهلة ومضاحك وفاقه
فارس الجيش الوجهو ما بتلاقى
والنار البتاكل جارو برضي حراقه.
مات “أحمد طه” واقفاً شامخاً صامداً لم يهزمه المرض ولم تقعده العزيمة.. كان فارساً في ميادين القتال بالجنوب وفي جبال النوبة من أبطال الهجانة أم ريش أصل الجيش.. سقط كالنسر من علياء السماء وحدق في وجه الأطباء بنظرة (مودع) لهذه الدنيا زفت وسائل التواصل الاجتماعي النبأ المفزع برحيل “أحمد طه” لأن الراحل كان مثل “زرياب” الفتى الذي أشجى بغنائه بغداد بكل فيض أدبها.. ثم ارتحل “زرياب” من بغداد إلى الأندلس مثلما ارتحل الجنرال من الأبيض لأم درمان، وفي الأندلس كان “الحكم بن هشام” هو الذي احتضن “زرياب”، وقد تمايل لشدوه أهل قرطبة وأشبيلية وتأوهت لألحانه الحسان.. ولقد أنحل الدمع المعقود في مقل أصدقاء “أحمد طه” بكى عليه “خالد الشيخ” الوزير المثقف في كردفان.. وناح لفراقه “سيد الاسم وصاحب العنبة الرامية فوق بيتنا.. وهام “ميرغني ديشاب” في الأرض حزناً على “أحمد طه”.. أما نحن أصدقاؤه من الصحافيين فقد غشيتنا سحابة حُزن مضافة لأحزاننا الدائمة.. ولأن “أحمد طه” رجل نادر جاء إلى الدنيا وحيداً وذهب عنها.. في سبتمبر 2017م، ولم يبقَ لنا إلا القول:
فأفرح بأقصى ما استطعت من الهدوء
لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك.
نلتقي الجمعة القادمة إن طال العُمر..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية