أخبار

خربشات الجمعة

(1)
لماذا جفت ينابع الشعر الذي يتسرَّب إلى الروح ويغذي الوجدان.. وقد جدبت الساحة من الغناء الجديد.. وتوقفت الساحة الفنية عند ثمانينات القرن الماضي ولا يزال الشباب الذي يحصد ملايين الجنيهات من ترديد إنتاج غيرهم عاجزاً عن الحصول على نص غنائي بجودة ما كتبه “كمال محيسي” وتغنَّى به الهرم الكبير “محمد وردي”..
بشوف في شخصك أحلامي
ودنيا تفيض بأنغامي
وسحر الدنيا في عيونك
يبعد عني أوهامي
ولأن “كمال محيسي” ما كان حزيناً ومسكوناً بالمواجع والآلام. كان متفائلاً ومرحاً.. وتنتابه نشوة الإحساس بالواقع الجميل.. كتب إلى ملهمته.. يقول في ذات النص الغنائي المتفرِّد..
يا حبيبي الدنيا محلاها
بديعة وحلوة بين أيديك
فهل أيامي تنساها وتسلاها
إذا ما غبت عن عينيك..
ما أروع تلك النصوص الخالدة في سحَّارة الغناء السوداني التي نضبت الآن.. وأصبح الجيل الحالي مجرَّد معيد لغناء غيره بمزاعم فطيرة جداً.. إنهم يعيدون لتلك الأغنيات ألقها وشيوعاً وسط قاعدة من جمهرة المتلقين من الجيل الحديث الذي ربما لم يسمع بأجمل ما كتب “مبارك بشير”.
يا نسمة جاية من الوطن بتقولي ليَّ
أيام زمان ما برجعن
باكر بودعن الشجن
وأتمنى بيك طول الزمن
حظك جميل دائماً تسافري
بلا تصاريح رحلة سفر
وتعودي عبر المستحيل
نديانة ذي صدف البحر..
(2)
نأسى كثيراً حينما تجد قامة وتاريخ واسماً في القوات المسلحة السودانية مثل الجنرال “محمد بشير سليمان” يخوض في وحل السياسة.. ويشتجر الخلاف بينه وابنه مولانا “أحمد محمد هارون” في قضايا عامة، ولكنها ذات أثر بالغ على قطاع عريض من أبناء كردفان الذين ينظرون إلى الجنرال “محمد بشير سليمان” بعين التقدير.. والوفاء لرجل أعطى لوطنه ولم يستبق شيئاً، ولكن يحمل قلمه وفأسه وينهال ضرباً مبرحاً بلا رحمة لواحد من إشراقات الإنقاذ وأقمارها المضيئة مولانا “أحمد هارون” الذي نهض بكردفان شمالها وجنوبها من خلال موقعه كوالي على كادقلي والأبيض.. والجنرال “محمد بشير” حينما يقيِّم مشروعات النهضة بعين السخط التي تبدي المساويا، نخسر رؤية خبير ورجل دولة لا يزال أمامه كثير من الفرص للاستفادة من تجاربه وقدراته.. وحينما يصمت “هارون” ترفُّعاً عن الرد على اتهامه بالتجاوزات المالية، فإن “هارون” بحلمه وسعة صدره يعلم يقيناً أن شجرة الصندل يهرول نحوها حملة الفؤوس.. والسياسي الذي لا تنتاشه الرماح ويطعن في كبده وذمته لهو سياسي فاشل.. وأكثر. والجنرال “محمد بشير” لا يستطيع إنكار حقائق الواقع على الأرض.. “هارون” من بني قلعة شيكان وسقى العطشى في أحياء الأبيض الطرفية وشيَّد المسجد الكبير.. وأعاد للأبيض موقعها الريادي كعاصمة ثانية.. تحتضن مباريات المنتخب الوطني.. و”هارون” هو من بعث الحياة في جسد هلال كردفان بعد موت طويل.. وهو من نفخ في الإنسان روح العطاء.. والثقة في النفس.. وقبل كل ذلك طريق بارا جبرة الشيخ أم درمان الذي لولا “هارون” لما وصل الأسفلت الأسود إلى دار “الريح”، التي قال عنها الشريف “زين العابدين الهندي” ما لم يقله “فضيلي جماع” في ديوانه شارع القبة.
(3)
في ثالث أيام عيد الأضحى المبارك زرت مع الأصدقاء الثلاثة “آدم جماع” والي كسلا و”آدم عبد الرحمن حسين” الشهير بـ”أدومة” أحد حكماء وفرسان السودان والصديق “الصادق الرزيقي”، زرنا الأخ الكبير د.”علي الحاج محمد” الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي. و”علي الحاج” لم تغيِّره الأيام وتبدِّله المواقع، هو ذات القصير الذي حينما تقدَّم.. على كل أبناء جيله وحصل على المرتبة الأولى لطلاب الشهادة السودانية وصفه والده (بالقصير بلاع الطوال) وهو من قلة النجباء الذين احترفوا السياسة وهجروا المهن الأخرى كالطب والهندسة. ود.”علي الحاج” زادته سنوات الغربة الأخيرة قناعة بالديمقراطية والشفافية وتشرَّب بقيم جديدة في منهجه الخاص وسلوكه العام.. تدخل بيت د.”علي الحاج” وقت تشاء من غير ميعاد مسبق.. ويستقبلك الرجل ببشاشة ويتحدَّث دون قيود.. فتح لنا خزائن معلوماته وتجاربه مع المعارضة وفي الحكم ودهاليز المفاوضات مع د.”جون قرنق” وأسرار لقاءات مضت عليها سنوات طويلة، وفي كل لحظة تشعر بالحاجة إلى مزيد من المؤانسة مع د.”علي الحاج” الذي هو في حاجة لتوثيق لتجاربه على طريقة “أحمد منصور” في قناة الجزيرة.. وحينما ينظر الأخ “الصادق الرزيقي” إلى (الآدمين)، أي “آدم عبد الرحمن حسين” و”آدم جماع”.. يقول ود.”علي الحاج” يا جماعة (والله العيد جاب لينا ناس طوَّلنا منهم).. وغاص الرجل بعيداً في أيام معارضة الدارفوريين لحاكم الإقليم “الطيب المرضي”.. وسنوات بلورة ظهور كيان إقليمي في دارفور في ستينات القرن الماضي، وكان د.”علي الحاج” طالباً بجامعة الخرطوم، ولكنه ناشطاً سياسياً استطاع إقناع الزعيم “الأزهري” ورئيس الوزراء “المحجوب” بضرورة التعامل مع العملية الانتخابية التي حاول تنفيذها بعض أبناء دارفور بتنفيذ اغتيالات تطال بعض المسؤولين في الفاشر.. وساهم الرجل في تنفيس الاحتقان وسط أبناء دارفور.. بين الأمس واليوم والتطلُّع للغد، ينظر “علي الحاج” لواقع البلاد بعين المُشفق.. وهو متفائل جداً بالمستقبل القادم للأجيال.. لكنه قلق جداً من استمرار الحرب والعجز عن إطلاق مبادرات تخاطب جذور النزاع.
(4)
حينما كنا صغاراً نرعى الماشية في سهول بلادنا الواسعة تمنحنا البوستة التي تأتي مع قطار الخرطوم كل (أربعاء)، الصحف العربية الساخنة والكتب التي تُطبع في بيروت في تلك السنوات الباكرة من العمر، كان الشعر بالنسبة لنا سلاحاً فتَّاكاً يواجه غطرسة إسرائيل.. وإن هناك جنوداً مثل “محمود درويش” يقاتلون بغير بنادق ويقفون في وجه عدو لا يرحم ولا يحترم المواثيق الدولية ولا المعاهدات، وكان “محمود درويش” يقول لعدوِّه بكل فخر وعزة وقوة.
يا دمي العينين والكفين الليل زائل
لا غرفة التوفيق باقية ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما.. بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي السنابل
شكراً للقطار الذي كان يحمل في جوفه الركاب والبضائع والثقافة والعلم والآداب والشعراء، ولكنه الآن توقَّف وصار شيئاً آخر.. وحتى نلتقي مع السلامة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية