العاصمة البديلة
قبل سنوات من الآن تم طرح مقترح بالبحث عن مدينة لجعلها عاصمة للسودان بدلاً عن الخرطوم.. والفكرة في جوهرها كانت تنفيساً عن كرب الخرطوم الحالية ومشكلات تصريف مياه الأمطار وسوء شبكة الخدمات من طرق ومياه وصعوبة إصلاحها والتردي البيئي.. حتى أطلق “فاقان أموم” قبل انفصال الجنوب مقولته التي أثارت غضب الشماليين (سنغادر وسخ الخرطوم) ولما كانت الأفكار في هذا البلد وليدة لحظات انفعالات ظرفية تم صرف النظر أو ماتت الفكرة بعد زوال أسباب الانفعالات مؤقتاً..
وفي ذلك الوقت تم طرح بدائل للعاصمة الخرطوم منها كوستي ومروي والدويم والأبيض ومدني وكل تلك المدن تستحق أن تصبح عاصمة للسودان لأسباب جغرافية محضة ولكن لم تفكر النخبة التي تقود البلاد في حل سياسي واقتصادي لمشكلات السودان من خلال العاصمة البديلة.. وفي هذا المقام يذكر الدكتور “علي الحاج محمد” أحد السياسيين الواقعيين في بلادنا قصة نقل العاصمة من الخرطوم إلى جوبا التي طالبت بها الحركة الشعبية حينذاك ثمناً لوحدة البلاد وجاءت المطالبة من قبل “سلفا كير ميارديت” الرئيس الحالي لجنوب السودان، دون استشارة دكتور “جون قرنق” ولما كان د. “علي الحاج” لا يتضمن التفويض الممنوح له البت في قضية كهذه عاد للخرطوم وطرح الأمر على المتنفذين في السلطة حينذاك وكانت المفاجأة رفضهم الفكرة تماماً حتى لو أدى ذلك لحرب طويلة الأمد.. لكن الدكتور “الترابي” رحمة الله عليه وافق على نقل العاصمة لجوبا.. وطلب من دكتور “علي الحاج” الاتصال بالحركة الشعبية وإبلاغها عن موافقة الخرطوم للمقترح الذي قدمته، ولكن في المعسكر الآخر حينما طرح “سلفا كير” على رئيسه “جون قرنق” المقترح عنفه “جون قرنق” بشدة، وقال إذا وافق الشمال على مثل هذا المقترح لانتهت قضيتنا، لأن نقل العاصمة لجوبا يعني إيقاف الحرب وانتفاء مبرراتها قبل أن تتحقق شروط الوحدة.. واليوم تبدو حاجة السودان لعواصم بديلة وليست عاصمة واحدة أكثر إلحاحاً لأسباب اقتصادية ولأسباب سياسية.. فالسلطة في بلد كالسودان هي المحرك لعجلة الاقتصاد والسياسة وبغض النظر عن أمراض العاصمة الخرطوم واليأس من إصلاحها فإن السودان الذي تتنوع مناخاته وتتعدد فرص الاستثمار فيه والسياحة في ربوعه يحتاج لنظرة عميقة وتفكير خارج دائرة (حاضر سعادتك وكل شيء تمام)..
ومصر حينما قرر “حسني مبارك” جعل مدينة شرم الشيخ واجهة سياحية نقل بعض أنشطته إلى فنادق المدينة الحديثة وقصورها.. ومن خلال استقبال مصر لرؤساء العالم تم التسويق لمدينة شرم الشيخ.. ونحن هنا في حاجة حقيقية لعواصم بديلة للخرطوم بورتسودان في الشرق وكادقلي في الغرب.. وكلاهما مناطق أزمات وصراعات وشعور بالتهميش والتجاهل من قبل المركز.. وكلا المدينتين مناطق جذب سياحي واقتصادي ولن يتحقق ذلك إلا بوجود السلطة العليا في الدولة بتلك المدن على الأقل في شهور محددة من العام..
مدينة مثل كادقلي تبلغ معدلات درجات الحرارة في فصل الخريف ما بين 10 درجات إلى 25 درجة وتظللها السحب والأشجار الخضراء والجبال الرائعة طوال الفترة من مايو وحتى أكتوبر وإذا ما شيد الحكومة قصراً صغيراً للرئيس وبيت ضيافة يتسع لرؤساء الدول القادمة وأصبح الرئيس يستقبل ضيوفه في فترة الصيف بتلك المدينة الرائعة فإن مساقط الأضواء الإعلامية ستصوب نحوها أي المدينة مجاناً دون أن تتكبد الخزانة العامة مبالغ مالية للترويج للدعاية السياحية.. ولا تحتاج مدينة مثل كادقلي لتشييد قصر وإقامة فنادق وتوسعة المطار لمبالغ كبيرة نظراً لوجود المواد الخام مجاناً مثل الحجر والأسمنت والأخشاب ولأن وجود الرئيس في دولة مثل السودان في أي مدينة من المدن يعني عملياً حل مكشلاتها فإن البندقية التي تحصد الأرواح وتعطل التنمية ستصمد للأبد لمجرد وجود الرئيس في قلب المنطقة.. ونواصل.