خربشات (الجمعة)
(1)
خلع “حماد” الجلابية البيضاء ونزع الطاقية عن رأسه وأمسك ببزته العسكرية.. شعر لأول مرة بأن جسده يقشعر من الكاكي.. وقذف بالشبط الأبيض الذي كان يرتديه لتظهر جماليات خضاب الحنة.. وتوارى بعيداً عن أنظار أسرته.. حذر السؤال عن الأسباب التي جعلته يرتدي الملابس العسكرية بدلاً من البدلة السوداء.. والقميص الأبيض وربطة العنق الحمراء التي تبرعت بها ابنة خالته “شامة” التي تقيم مع زوجها في “أبو ظبي”.
أقبل “حماد” بخفة وانضباط لأداء تحية للضابط الذي كان ينتظره في السيارة اللاندكروزر بعيداً عن منزله حيث الأفراح.. والرقص.. والاستعداد للزواج مساء ذلك اليوم “حضرنا سعادتك..
قال الضابط.. أسرع مبروك لقد نفذت التوجيهات “حماد” لكن يا سعادتك اليوم زواجي.. لماذا لا يمنحني القائد ساعات فقط لإكمال مراسم الزواج وغداً تبلغ رئاسة القوات.
الضابط: شوف يا “حماد” هي توجيهات عاجلة كل الضباط والجنود قطعوا إجازاتهم.. بالأمس وصل من “جوبا” إلى “كادقلي” (250) ضابطاً.. وأكثر من خمسمائة عسكري والوضع يتطلب الاستعداد من أجل قضية الأهل والمنطقة.
“حماد” ما هي القضية التي تستدعي كل هذا.. الضابط.. لقد سرق المؤتمر الوطني أصواتنا وقد حقق (الكومرت) “عبد العزيز” الفوز على “أحمد هارون” ويفترض أن يصبح “عبد العزيز” هو الحاكم.. لكن تم تزوير الانتخابات.. أجلس على الكرسي.. تنهد “حماد” طويلاً وسأل الضابط هل فوز أو خسارة الانتخابات سبب لنموت نحن في مواجهة مع قوات الحكومة؟؟
وقوات الحكومة هم أيضاً إخوتنا كيف نقتلهم ويقتلوننا من أجل شخص واحد يجلس على كرسي السلطة والباقون.. واستطرد قائلاً لماذا لا تقدر القيادة العليا التضحيات الجسام لنا في كل المعارك التي شاركنا فيها تحملنا الجوع والجروح والبعوض والأمطار والبرد والحيوانات المفترسة واضطررنا لنأكل أوراق الشجر، وأنا اليوم عريس يفترض أن يقف معي الجميع.. لا أن يتم استدعائي لمهمة غير معروفة.
الضابط وقد تبدى عليه الغضب المصطنع.. تعلم أن المناضلين يتزوجون القضية وليس النساء وقد ضحى الآلاف من أبناء شعبنا بأرواحهم.. وترك بعضهم وزوجاتهم وأولادهم لأن القضية أهم من أحضان الزوجة.
“حماد”.. الذين يتزوجون القضية (يا سعادتك) ينجبون شنو!! الضابط وظيفة الإنسان الأساسية ليست إنجاب البنات والأولاد.. خلقنا الله من أجل قيم سامية وإذا كنت تؤمن بأن شعب جبال النوبة مظلوم ولن تتحقق العدالة في هذه المنطقة إلا بعد طرد العرب المستعمرين.
“حماد”.. ماذا تقصد بالعرب المستعمرين.. هل البقارة الذين يعيشون هنا منذ مئات السنين هم مستعمرون.. الضابط: خلال الساعات القادمة على معركة فاصلة مع جيش العدو لاحتلال مدينة “كادقلي” وتحرير جبال النوبة.
“حماد” حاضر سعادتك.
الضابط: أي سؤال؟؟
“حماد” نعم إذا تمت السيطرة على “كادقلي” اليوم هل تستطيع إتمام مراسم زواجي.
الضابط: طبعاً وسوف يصبح زواجك فرحاً لكل شعب جبال النوبة.
“حماد” ولكنك تقول يا سعادتك إن طرد العرب من جبال النوبة هي مهمتنا الأولى فهل تطرد زوجتي ووالدها.
الضابط: عليك تنفيذ التعليمات ما عاوزين كلام كتير.. إلى الخلف دور..
(2)
همست “سعاد” في أذن ابنة أختها العروس “تهاني” بما يوحي بأن أمراً طارئاً سيحدث في الساعات القادمة، وقد تسلل لقلب “تهاني” الشك بأن إغلاق هاتف “حماد” بصورة مفاجئة ينبئ بشيء ما.. حدثتها نفسها عن نشوب خلاف داخل أسرته.. أو شيء من ذلك قد جعل عقد القران في ذلك اليوم محل شك.. قالت “سعاد” للعروس “تهاني” شوفي (يا بت) الزواج ليس كله سعادة وفرح وحب وغرام.. كل الرجال صفاتهم متقاربة.. أنا تزوجت من شايقي يسكن أهله بالقرير وهي قرية صغيرة بالشمالية ويقيم بالخرطوم حي أركويت منذ سنوات وجدت عندهم العسل والمُر.. احترموني وقدروني لأنني حرصت على القيام بدوري كزوجة في البيت.. لا أنام إلا إذا نام زوجي.. وحينما يعود من صلاة الصبح يجد أكواب الشاي والزلابية والعصائر أمامه.. أحرص على الابتسامة في وجهه عند العودة من رهق العمل اليومي.. لا أطلب ما أريده من مال أو خدمات إلا حينما أشعر بأن زوجي في حالة نفسية طبيعية.. سوف تتزوجين من “حماد” وهو من منطقتنا هذه.. لا يحدثك البعض عن العرب والنوبة.. لا فرق بيننا.. العرب الموجودون هنا أمهاتهم وحبوباتهم من النوبة.. الذين تصاهروا مع كل السودانيين ، أنظري لبشرة والدك الصول أشد سواداً من بشرة “كومي كوه”.. ورغم ذلك هو رئيس شورى القبائل العربية.. في المنطقة.
توقعي أن يرفضك بعض أفراد أسرته من المتعصبين ولكن تكوين الأسرة وإنجاب الأطفال والحرص على حثهم على التعليم هي مسؤوليتك قبل الزواج ، الذي قد تضطره ظروف الحياة للسفر والترحال.. أصبري على أخطاء زوجك، فالرجال من الصعب السيطرة عليهم، إذا رغب الواحد منهم في يوم ما في الزواج لا تعانديه.. ولكن أي امرأة يفكر زوجها في الزواج هي امرأة مقصرة في واجباتها على الفراش والسعادة أو في فناء المنزل.. واحترمي والدة زوجك وأخواته وإخوانه ووالده.. مثل احترامك لأسرتك.
تسللت دمعة من مقلة العروس “تهاني” وبللت الخدود الوردية وأمسكت بيد “سعاد”.. إن شاء الله ما نعدمكم.. وتجديني عند حسن ظنك وتقديرك ما في عوجة يا “سعاد”.. لكن!!
لكن شنو يا “تهاني”…
والله أنا خايفة..
“سعاد”.. خايفة من شنو الزواج حياة جديدة ومشوار طويل لطريق الرفاه.. والسعادة..
(3)
لأول مرة ينقسم المفاوضون إلى فريقين ذهب أعضاء المؤتمر الوطني لمنزل الوالي “أحمد هارون” بينما وضعت ترتيبات لانتقال قيادات الحركة الشعبية “مالك عقار” و”ياسر عرمان” واللواء “مجاك” نائب مدير جهاز الأمن واللواء “أحمد العمدة”.. ود.”أحمد عبد الرحمن سعيد” إلى غرب مدينة كادقلي للقاء (الكومرت) “عبد العزيز الحلو”.. تسربت ساعات النهار بطيئة والمؤتمر الوطني ينتظر أن يعود “الحلو” برفقة الوفد القادم من الخرطوم لإنهاء حالة القطيعة بينه و”أحمد هارون” وانقشاع سحابة تجدد الحرب مرة أخرى.. وأثار تقرير قدمه مدير جهاز الأمن بالولاية مخاوف الوفد الذي كان مطمئناً لقدرته على نزع فتيل الاحتقان وقد تكشفت التقارير الاستخبارية عن تعبئة وسط الجيش الشعبي ووصول كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر من الجنوب.. وترحيل أسر الضباط من المدن الكبيرة إما لكاودا وأم سردبة أوالخرطوم وجوبا.