ألمحت إلى إمكانية رفع العقوبات : واشنطون والخرطوم.. (المشي على الحبال)..!!
يبدو أن نتائج التوصل إلى اتفاق شامل – لم يُوقّع بعد – بين السودان وجنوب السودان حول ملف النفط، لم تقتصر فقط على خروج البلدين من (عنق الزجاجة) بالنسبة للضائقة الاقتصادية لكليهما، ولا على تمهيد الطريق لتوقيع اتفاق نهائي على مجمل القضايا الخلافية المتبقية؛ بل تعدّت ذلك إلى التأثير على موقف أمريكا نفسها، وتحولها (90) درجة، إن لم تكن (180) درجة، في موقفها الثابت تجاه السودان، والذي يتمثل في العقوبات الاقتصادية التي تفرضها عليه منذ العام 1993م.
أمريكا التي اعتادت أن ترفع (العصا) في وجه الخرطوم، في كل تدخلاتها في قضايا السودان الخلافية سواء أكان مع الجنوب أو في دارفور؛ عوضاً عن (الجزرة) التي باتت لا تُظهرها إلا نادراً؛ تبدو سعادتها بتوصل البلدين الذين وُلد اتفاق السلام الشامل بينهما على يديها، تبدو سعادتها كبيرة بقرب التوقيع على اتفاق تم التوصل إليه وتجاوز كل النقاط الخلافية حوله، فيما يتعلق برسوم نقل ومعالجة وتصدير نفط الجنوب عبر الشمال. سعادةٌ بدت في المرونة الكبيرة و(المفاجئة) التي أبدتها واشنطون تجاه الخرطوم، والتي لم تكن بدايتها في تعبير البيت الأبيض عن رضائه عن الخطوات التي اتخذتها حكومة السودان في قضايا التفاوض الخلافية، وتمثل ذلك في تصريح الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” بأن “البشير” و”سلفا” (يستحقان التهنئة على ما قدماه في سبيل الوصول إلى سلام). مرونةٌ يبدو كذلك أنها لن تنتهي بالخبر الذي نقلته (الفايننشال تايمز) البريطانية، والتي تحدثت أمس الأول عن سعي واشنطون لتقديم (ثلاثة مليارات دولار) للسودان، ضمن صفقة – بحسب الصحيفة – لاستئناف انتاج النفط في الجنوب، وتعويض السودان عن فترة توقف ضخ نفط الجنوب. واشنطون لم تكتف بذلك، بل حثت الصين ودولاً عربية على المساعدة في تأمين هذا المبلغ، ولأنها تفرض عقوبات اقتصادية على السودان، فإن ذلك يمنعها من تقديم دعم مباشر له بالدولار، ولكن يمكن أن يكون لها تأثير في تقديم اعفاءات لدول عربية مثل قطر والكويت لتأمين هذا المبلغ.
إذن، وبغض النظر عن كونها (صفقة)، أو مكافأة، أو إغراءً لتقديم السودان مزيداً من التنازلات في المفاوضات الجارية الآن بأديس بينه وجنوب السودان؛ فإن الموقف الأمريكي تجاه السودان لا يمكن وصفه إلا بأنه في طريقه لمغادرة محطة العداء السافر، والاستهداف الواضح، الذي بُني منذ سنوات على خلفية اتهام الأخير بدعم وايواء الارهاب. ويتسق مع هذه القراءة موقف اللوبي المضاد للسودان في الكونغرس الأمريكي، والذي خفت صوته مؤخراً، تزامناً مع انعقاد جولة التفاوض بأديس، والتي وُصفت بالأخيرة. ونقلت صحيفة (واشنطون بوست) الأمريكية أمس الأول عن مسؤول في إدارة “أوباما” تأكيده حرص الولايات المتحدة تحسين علاقاتها مع السودان، قائلاً إن (واشنطون تسعى لرأب صدع علاقاتها مع الخرطوم). لكنه ربط ذلك بتبنّي السودان للديمقراطية واحترام حقوق الانسان. ما يعني أن أمريكا بات لديها الاستعداد للمضي قدماً في علاقتها بالخرطوم، وصولاً لرفع العقوبات الاقتصادية عنه.
ويسود اعتقاد واسع وسط الأوساط السياسية بأن الخطوات الأمريكية الأخيرة في التقارب مع السودان تأتي في أعقاب توتر علاقتها مع جوبا، على خلفية اعتراف سلفاكير بالكذب عليها فيما يتعلق بتقديم بلاده دعماً للحركات المتمردة على الشمال. ويذهب محللون إلى أن الفرصة مواتية الآن أمام الخرطوم لتحسين علاقتها مع واشنطون التي ترمي بثقلها لوضع حد لتوتر الدولتين، وفي سبيل ذلك يمكن أن تقدم للسودان مزيداً من المحفزات. معتبرين أن السودان سيكون هو المستفيد الأكبر في حال توقيع اتفاق نهائي مع الجنوب؛ لأن ذلك ستكون له فوائد أخرى ربما تكون أكبر بكثير من توصله إلى اتفاق مع الجنوب.
في المقابل، تعاملت الحكومة مع الخطوة بحذر، وقللت من تأثيرها، ووصف المؤتمر الوطني الموقف الأمريكي بـ(التكتيكي)، وقال مسؤول الإعلام بالوطني “بدر الدين إبراهيم” إن أمريكا تضررت من إيقاف ضخ البترول، لذا تحركت لخدمة مصالحها.
ويؤيّد ما ذهب إليه مسؤول الوطني؛ المحلل السياسي د. “حسن الساعوري”، الذي يصف الموقف الأمريكي أيضاً بالتكتيكي، ويفسر ذلك بأن أمريكا ظلت تفرض حصاراً اقتصادياً على السودان منذ عشرين عاماً، ولو كانت جادة بالفعل لأنهت مقاطعتها للسودان فوراً قبل أن تحث الآخرين على دعمه. وأضاف “الساعوري” بأن موقف أمريكا الأخير هو بمثابة جزرة ووعود وتسويف للأمر، معتبراً حديثها عن استعدادها للتعاون مع السودان ورفع العقوبات عنه مشروطاً ببعض الشروط؛ اعتبره مجرد مناورة، مشدداً على أن أمريكا لن تكون جادة في أي موقف مع السودان، لكنه عاد وقال إن الترهيب يأتي هذه المرة مصحوباً بالترغيب، مما يعد خطوة إلى الأمام. ففي السابق كان الترغيب مجرد كلام ووعود فقط، لكنه تقدم الآن خطوة للأمام. وشدّد على أن الحكومة ينبغي ألا تستمع لهذا الترغيب ما لم يكن معه قرار بأنها المقاطعة الأمريكية للسودان، ويضيف بأن الدول ينبغي ألا تتعامل بالوعود، بل بالقرارات. ويمضي “الساعوري”، في حديثه مع (المجهر)، أمس، ليقول إن أمريكا تتحدث عن أنها ستساعد السودان وتحث الآخرين على تقديم الدعم له، لكنها تعلم تماماً أنها ما لم تتقدم هذا الأمر، وتبدأه بنفسها، فإنه لن يكون هناك أي دعم من أي جهة أخرى.