ما وراء القرار (1)
{ التنافس بين الدبلوماسية التقليدية ودبلوماسية القصر ودبلوماسية الأجهزة التنفيذية (الأمن .. الجيش، الدعم السريع والشرطة)، هي ما أثمر اليوم رفع العقوبات الأمريكية عن عنق السودان بعد حصار طال البلاد منذ عام 1997م.. وقد يبدو ذكر الجبهة العسكرية في هذا المقام شيئاً مستغرباً .. لكن المكالمة الهاتفية التي جرت بين مدير جهاز المخابرات الأمريكية ومدير جهاز المخابرات السوداني “محمد عطا المولى عباس” وتهنئة الأول للثاني بصدور قرار رفع العقوبات، هي مكالمة لها مغذى باعتبار أن الطرفين أي جهازي الأمن في البلدين قد أثمرت جهودهما في نهاية المطاف، بالوصول لنقطة انطلاق لعلاقات جديدة وفتح صفحة أخرى .. لأن الجهاز العسكري والأمن قد ساهم في صدور القرار بما قام به من مكافحة الإرهاب في المنطقة ومكافحة الهجرة غير الشرعية لأوروبا، خاصة بعد أن أغلقت قوات الدعم السريع الحدود مع ليبيا. وهذه الملفات هي ملفات أمنية وعسكرية وقد أغلقت الخرطوم أبوابها في وجه الإسلاميين المتطرفين من التيار الجهادي ولم تستقبل حتى الإسلاميين المصريين الذين نكل بهم السيسي وأرغمهم على الهجرة لأوروبا، عطفاً على موقف الخرطوم من حركة المقاومة الإسلامية حماس وإغلاق منافذ تهريب السلاح من شرق السودان إلى الأراضي المصرية وسيناء وصولاً لأيادي الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.. وقد جرت تفاهمات بعيداً عن الأضواء بين جهاز المخابرات السوداني والأمريكي مما كان له الأثر البالغ في الوصول للقرار الصادر.
السبب الثاني وراء صدور القرار الأمريكي هو نجاح دبلوماسية القصر الرئاسي من خلال المبعوثين إلى الدول الصديقة والشقيقة وخاصة الملف الخليجي والسعودي بصفة خاصة وتولي الرئيس “البشير” هذا الملف بنفسه.. وإسناد مهام تحسين علاقات السودان بالخليج للفريق “طه عثمان”، وقد حقق “طه الحسين” نجاحاً كبيراً بكسر جمود العلاقات الرئاسية، وبلدان الخليج أكثر قابلية للتفاهمات مع الرؤساء ومبعوثيهم .. وقد صبر “طه عثمان” على هدم الجدر السميكة التي كانت تفصل الخرطوم عن الرياض وأبو ظبي، وبدأت أولى خطوات الهدم بقطع العلاقات مع إيران التي دفع السودان ثمن مواقفه معها أثماناً باهظة ولم تقدر “طهران” حتى وضعه الاقتصادي، ورهنت أي تعامل اقتصادي بسداد ديون قديمة لا تتجاوز الـ(500) مليون دولار .. وتبع قرار قطع العلاقات مع إيران عودة السودان لمحيطه العربي السني بخطى متسارعة، وكان “طه عثمان” مهندساً لمشاركة السودان في الحرب على الإرهاب باليمن .. تقديراً لتلك المواقف أقبلت السعودية على لعب دور سياسي هام مع الولايات المتحدة الأمريكية حتى رفعت العقوبات عن السودان. وكان الملك “سلمان ابن عبد العزيز” أول من رفع سماعة الهاتف وتحدث مع الرئيس “عمر البشير” مهنئاً بصدور القرار الأمريكي، وأبرزت صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية الخبر في صدر صفحتها الأولى بعدد أمس (السبت)، وأوردت تصريحات للفريق “طه عثمان” أثنى فيها على جهود المملكة العربية وخص ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” الذي نفذ توجيهات الملك فيما يتصل بملف السودان، والدور السعودي والإماراتي في القرار لا يحتاج لإضاءة منا.
وأخيراً فإن الخارجية السودانية هي الأخرى لعبت دوراً من خلال لقاءات البروفيسور”إبراهيم غندور” بالرئيس الأمريكي “أوباما”.. ووزير الخارجية “جون كيري” .. وقد فتحت قنوات التعاون بين البلدين منذ أسبوعين مرفوعة بالأسباب التي وردت بشأن الملف الأمني والعسكري وملف الدبلوماسية الرئاسية.. وتتولى الخارجية الآن إخراج تلك المجهودات إلى العلن باعتبار أن طبيعة الدبلوماسية الخاصة تجعلها بعيدة عن الأضواء، وبعد أن منحت أمريكا السودان ستة أشهر لتنفيذ مطلوبات محددة من شأنها فتح أبواب التطبيع النهائي .. ما هو المطلوب القيام به من جهة الحكومة السودانية في الأيام القادمة غداً نواصل.