مأساة شعب
في أحد أطراف الحارة (20) أم درمان التي غادرتها قبل شهور إلى الحارة (100) الواقعة في أقاصي أم درمان الشمالية الغربية.. احتفظ بكل تفاصيل صغيرة عن تلك الحارة التي عشت فيها أكثر من خمسة عشر عاماً.. في مساحة خالية اتخذت “تريزا” من بقايا جوالات الخيش.. وأغصان الأشجار.. وما تجود به قمامة الحي مسكناً دافئاً لأطفالها الأربعة.. تخرج “تريزا” لتجوب البيوت تغسل الأواني والملابس القذرة.. وتجلس الساعات على البنبر.. تغني (بلغة) أو لهجة النوير.. تعمدت “تريزا” طوال فترة الحرب على الصمت.. لا تتحدث عن زوجها الغائب.. ولا يسألها سكان الحي عن أسرار حياتها الزوجية.. أغلب الشماليين ينظرون للجنوبيين في سنوات ما قبل السلام بسقط المتاع وهامش الحياة.. وكانت “تريزا” امرأة بلا حقوق..كم نافح عنها بعض الإنسانيين باعتبارها مواطنا من سكان الحي ولكنهم فشلوا.. لم يغيِّر شيئاً في حياة “تريزا” بعد حلول السلام باستثناء قدوم شاب أربعيني هو زوجها الغائب في الأدغال متمرد سابق.. وضابط حينذاك في القوات المشتركة، انتقلت “تريزا” من السكن في شواغر القطع السكنية تحت ظل راكوبة من الخيش إلى منزل بثلاث غرف..لم تنقطع عن صديقاتها في الحارة ولم تترفع عن مهنتها (كشغالة)، تأكل من عرق جبينها.. في يوم خالد في حياتها جاءت عربة (دفار) لحمل عفش المنزل.. طافت على نساء الحارة ذرفت دموعاً دافئة نظرت لعيون البعض بحسرة وخوف.. دفعت كل ما عليها من ديون بدكان البرقاوي “عثمان” الذي شطب اسمها نهائياً من كراسة الديون، تبرعت سعيدة خبيرة التجميل والحناء بالحارة بنقش الحنة على أنامل “تريزا” الخشنة.. ارتدى “دينق” أكبر أبنائها بدلة سوداء وربطة عنق حمراء.. زفر الدفار دخاناً كثيفاً.. وأخذت “تريزا” – وزوجها الصامت -تلوح بيدها إعلاناً عن فرحتها بميلاد دولة جنوب السودان.. حدثتها نفسها عن قديسة تراب الوطن.. وأشواقها للحرية والكرامة في كنف دولة حلمت بها، ومات من أجلها والدها الذي كان من أوائل جنود حركة الأنانيا (1).. مات وفي نفسه حلم برؤية علم غير علم السودان يرفرف في سماء ملكال والناصر وجوبا.
بالشوق والحنان والعواطف الجياشة تكومت “تريزا” مثل طعام على ظهر الباخرة التي ترفع علم الأمم المتحدة عائدة ضمن برنامج تنفذه منظمة الهجرة الدولية لقريتها (مريال أجبت) بالقرب من بانتيو.. تذكرت كل شيء في تفاصيل حياتها بالشمال.. برد الشتاء.. وحرارة الصيف الغبار الكثيف.. الكنيسة.. وتعاويذ المطران بيتر البرش.. ورسائل زوجها السرية وهو يقاتل في صفوف الجيش الشعبي من أجل سودان جديد أو وطن بديل لمقرن النيلين وتوتي أم خضاراً شال..انتهى زخم الاستقلال ونشوة الانقسام.. وفجأة هبت عواصف حرب جديدة بين الثوار والثوار.. مات زوجها برصاصة هاون مزقت أحشائه وتم دفنه في مقبرة جماعية.. هرولت “تريزا” لمقار الأمم المتحدة.. لاحقتها أياد آثمة.. وفقدت طفلتها (مو).. ماتت في حضنها بالمرض.. لم تجد غير طريق العودة للشمال، وفي ذات القطعة الخالية.. شيَّدت “تريزا” منذ أسبوع راكوبة جديدة لتعود إلى مأساتها القديمة بعد أن ظنت أنها قد ودعت وطن المآسي والفواجع والمحن.. لكنها تعود مثل آلاف الجنوبيين الذين عاشوا حياة (تعيسة) قبل الانفصال وحياة (أتعس) في دولة الأثنية والعرقية البغيضة، لم يشقى شعباً على وجه الكرة الأرض مثلما شقي أهل الجنوب.. لم يتعذب مواطنون في القارة الأفريقية مثل عذابات السودانيين الجنوبيين.. حلموا بالاستقلال وفجعوا في الثوار الذين خدعوهم بالشعارات وقتلوهم بالمجنزرات.. وقف كل العالم متفرجاً على المأساة التي يعيشها الجنوب ولم تجد الولايات المتحدة التي تتحمل نصف أسباب تعاسة القوم إلا التهديد بإعادة استعمار الجنوب تحت غطاء الشرعية الدولية. و”تريزا” في الحارة (20) تعود بعد خمس سنوات، وقد ضعف ووهن الجسد وأصبحت لا تقوى على العمل، وفقدت نصف عقلها.