اغتيالات "نيالا"
مرة أخرى تعود دارفور إلى أحزانها ودموعها وفواجعها التي لا تنقضي، وتشهد أكبر مدينة من حيث التعداد السكاني نيالا حادثتين فاجعتين داميتين باغتيال موظف حكومي “عز الدين سعد” بعد أن وضع أموال محلية أم دافوق في حرزه.. لتهاجمه عصابة من الملثمين وتنهي حياته في عز النهار .. الشمس في كبد السماء والسلطة تحدق بالعين المجردة تراقب وضع المدينة.. وليلة (الخميس) تهاجم عصابة أخرى، مسؤولاً حكومياً سابقاً معتمد محلية بيضة، السابق “جمال أحمد عبد الجبار” وهو عمدة لقبيلة كانت لها في السودان الغربي مملكة وحضارة (الداجو)، وبعيداً عن الطريقة التي قتل بها “جمال عبد الجبار” والوصف الذي قدمه مدير شرطة جنوب دارفور لمراسل (المجهر) الأستاذ “عبد المنعم مادبو” وهو صحافي مميز جداً في تقاريره وأخباره.. إلا أن حادثة الاغتيال قد وضعت الحكومة أمام واقع ظل شاخصاً بأن (الأمن) قضية شائكة، ومهما كانت الاستعدادات والاحترازات فإن عصابات القتل تستطيع النفاذ من ثغرة هنا.. أو هناك وتنفذ عملياتها التي تهدر موارد الدولة وتهز صورتها في الرأي العام .. انظر إلى خبر تصريحات مدير شرطة جنوب دارفور اللواء “بلة محمد حسن” الذي قدم وصفاً لما هو معلوم بالضرورة !! وقع الحادث التاسعة ليل (الخميس) حينما أطلق مسلحان النار على العمدة “جمال” أمام منزله و(القتلة) كانا يسيران على قدميهما أمام عيون المواطنين ودورية الشرطة على مقربة من مكان الحادث، حيث ترابط بسوق النيل .. وقد تحركت قوات الشرطة وألقت القبض على شخصين مشتبه فيهما يحملان بندقية اتضح أن هناك طلقات خرجت من فوهتها، ومضى اللواء “بلة” في حديثه الذي نشرته (المجهر) في عددها الصادر أمس إلى القول : (لجنة أمن الولاية وضعت خطة للتعامل مع الوضع داخل مدينة نيالا، حيث تقرر أن تكون هناك أطواف ليلية ونهارية من القوات المشتركة، تبدأ من يوم (السبت) أي أمس .. وأن القوات التي تطوف في النهار شوارع نيالا من الصباح الباكر وحتى الساعة الخامسة موعد استلام قوات أخرى تطوف ليلاً. حديث مدير الشرطة (الاحترافي) وضع الحادث في حجمه الحقيقي، ومما يحمد لحكومة الوالي “آدم الفكي” أنها تركت لأهل الاختصاص من الحدث ما يليهم واتخاذ التدابير التي من شأنها تخفيف حجم الجرائم المنظمة التي تفشت في دارفور. من حديث مدير الشرطة بجنوب دارفور تتكشف مأساة هذا البلد، إذا كانت مدينة مثل نيالا هي الثانية من حيث عدد السكان بعد الخرطوم لا ينام مواطنوها إلا بطواف قوات الشرطة لحماية السكان من المجرمين، فإن كل مدخرات وعائدات حكومة الولاية إذا أنفقت على لجنة الأمن لن تستطيع الوفاء بمطلوبات الصرف الأمني.. وعربات الطواف الليلي مع كل سير العربة (اللاندكروزر) أربعين كيلو متراً، فإن جالوناً من الوقود يتبدد في الهواء.. وسعر جالون الجازولين في دارفور أكثر من (35) خمسة وثلاثين جنيهاً، وبالطبع عربات الطواف الليلي لا تقل عن مائة عربة وكذلك الطواف النهاري .. وبحسابات تقديرية فإن مطلوبات الأمن لمدينة نيالا وحدها في اليوم أكثر من (100) ألف جنيه .. فأي مأساة تعيشها هذه المدينة التي ظلت جراحها نازفة منذ 2003م، وحتى اليوم .. لقد شهدت في العامين الأخيرين هدوءاً نسبياً .. ولكن المرض حينما لا يجد العلاج الشافي يتجدد مرة أخرى .. وقد ساهمت قوات الدعم السريع في استتباب الأمن وفرض هيبة السلطة والقانون، ولكن بالدستور الحفاظ على الأمن الداخلي هو مسؤولية الشرطة التي لا تسمح لها إمكانياتها الشحيحة وعزوف المواطنين من التجنيد في صفوفها لأداء واجبها .. في فرض الأمن والاستقرار .. كما أن المتمردين وعصابات القتل تستغل تعدد واجهات الأجهزة الأمنية وتتشبه بها وهي تنفذ عمليات (قذرة) أما للحصول على المال أو تصفية الحسابات، ومن الروايات والقصص التي تكشف عن مأساة السودان في دارفور، قيل (إن إعرابياً يحمل بندقيته حط بمتاعه بمنزل زغاوي في منتصف الليل.. الزغاوي أكرم العربي بالطعام والشراب وفي الصباح قدم له بعض الهدايا.. وذهب الإعرابي إلى سبيله وبقي الزغاوي في منزله.. وبعد أيام عاد الإعرابي لصديقه الزغاوي وقال له: أنت رجل كريم أكرمتني واليوم جئت لأكرمك.. هل في هذه القرية شخص انت زعلان منه ؟ أو لديك خصم أقتله لك لتسريح ؟ لأنك أصبحت صديقي… هكذا يقتل الإنسان في دارفور).. كل قبائل دارفور تشارك في القتل عرباً وفور وزغاوة وتنجر وفلاته وأهلي خزام أيضاً، فكيف الخروج من عنق مأساة الإقليم الجريح؟ وهل التدابير الأمنية قادرة على استعادة الطمأنينة للناس أم ثمة حاجة لما هو أعمق من ذلك؟ وحتى المستثمرين الوطنيين الذين يعملون في مشروعات لتنمية دارفور يتعرضون لبشاعات وقتل ونهب .. وقد خسر “وليد الفايد” الشاب المستثمر – وهو يشيد طريق نيالا -عد الفرسان – أثني عشرة عربة بوكس نهبت و(6) من العمال قتلوا ولم تعوضه الحكومة.. بل بدأ الآن المرحلة الثانية من الطريق وهو يمشي على ألغام الموت.. وحكومة “آدم الفكي” تطلق الدعوات للمستثمرين وعصابات القتل تدفعهم بعيداً عن نيالا البحير.